
المعلم الفلسطيني… نهر الزمن وبناء المعنى ، بقلم : ثروت زيد الكيلاني
ليس هذا نصاً احتفالياً بالمعنى المتداول، ولا محاولة لمجاراة موسم الكتابة. هو اقتراب هادئ من سؤال يتسلل بصمت: ماذا يتبقى من التعليم حين يضيق الزمن، وتتقلص الشروط، وتُترك الطفولة لتواجه يومها المدرسي بإيقاع مبتور؟ من هنا يبدأ الكلام، ومن هنا فقط يمكن فهمه.
في فلسطين، المدرسة ليست مبنى يؤدي وظيفة، بل حيّز تتكثف فيه طبقات الزمن. الماضي لا يغيب؛ يظل حاضراً في اللغة، وفي الحساسية العالية لكل تفصيل. الحاضر لا يستقر؛ يمرّ متقطعاً، مثقلاً بالضغوط، محدود الإيقاع. أما المستقبل، فلا يأتي بوصفه وعداً جاهزاً، بل سؤالاً مفتوحاً في عيون الأطفال، يُصاغ كل صباح من جديد.
ضمن هذا التداخل، تتشكل التجربة التعليمية. الأطفال لا يدخلون الصف كصفحات بيضاء، ولا كذوات تنتظر الامتلاء، بل كحضور حي يحمل إيقاعات متعددة، وحواس متيقظة، وأسئلة لم تكتمل صيغتها بعد. العلاقة هنا لا تقوم على اتجاه واحد، بل على اشتغال مشترك داخل اللحظة: انتباه يُبنى، معنى يُختبر، وفهم يتشكل بالتدرج.
غير أن هذه اللحظة لا تُمنح كاملة. اليوم المدرسي يتعرض للاختزال، الزمن يتشظى، والاستمرارية تُستبدل بمحاولات ترميم متلاحقة. هذا التحول لا يبدو صاخباً، لكنه عميق الأثر؛ فحين يضطرب الإيقاع، يصبح بناء المعنى أكثر كلفة، وتتحول العملية التعليمية إلى جهد مضاعف للحفاظ على التماسك.
في قلب هذا الاضطراب، تقف المهنة تحت ضغط متراكم. الرواتب المجتزأة، الحقوق المؤجلة، واستنزاف الاستقرار، لا تُرهق الأفراد فحسب، بل تعيد رسم حدود ما يمكن للتعليم أن يحققه. هنا لا نتحدث عن شكوى، بل عن واقع يعيد تعريف العلاقة بين الجهد والإنصاف، وبين المسؤولية والشروط التي تسمح بأدائها.
ومع ذلك، لا يتوقف المسار، فالمعلم لا يتحرك بوصفه بطلاً رمزياً ولا ضحية صامتة، بل فاعلاً يحاول حماية الفضاء نفسه: حماية الزمن من الانهيار، حماية الطفل من التحول إلى رقم، وحماية الصف من أن يصبح إجراءً خالياً من الروح. هذه الحماية لا تُمارس بالشعارات، بل بأفعال دقيقة: تنظيم اللحظة، ضبط الإيقاع، وفتح مساحات آمنة للانتباه والخيال.
الطفولة في هذا السياق ليست مرحلة عابرة، بل حقل تشكّل إنساني عميق. كل سؤال يُمنح وقته، كل تجربة تُناقش دون استعجال، وكل فكرة تُعامل بجدية، هي فعل صامت في مواجهة التآكل. هنا يُبنى الوعي لا عبر التراكم الكمي، بل عبر التجربة، والربط، وإتاحة الفرصة للفهم أن ينمو دون قسر.
من هذا المنظور، تصبح حماية التعليم مسألة أخلاقية قبل أن تكون إدارية. حماية تعني صيانة الزمن، وصون الكرامة، وفهم الحقوق بوصفها شروطاً للمعنى لا امتيازات مؤجلة. حق المعلم في الاستقرار ليس منفصلاً عن حق الطفل في تعلم متماسك؛ كلاهما ينتميان إلى المسار ذاته، ويتأثر أحدهما باختلال الآخر.
التعليم هنا لا يُختزل في محتوى، بل يُفهم كعملية وعي: وعي بكيفية تشكّل الفهم، وبكيفية اشتغال العقل في ظروف ضاغطة، وبالدور الذي يلعبه الخيال في الحفاظ على التوازن الداخلي. الخيال ليس ترفاً، بل قدرة على الربط، وعلى تصور الممكن، وعلى إبقاء الأفق مفتوحاً رغم ضيق المجرى.
ختاماً، في يوم المعلم الفلسطيني، لا يكون الاحتفاء بشخص ولا بوظيفة، بل بمسار إنساني مركّب، وبوعيٍ يدرك أن التعليم لا يُترك لصدف التيار. فالنهر، مهما كان عذباً، يحتاج إلى ربّان، لا إلى حجر يُدحرج وفق تعرّجات بيئة طامعة بمياهه، تعيد توجيهه حيث تشاء، وتستنزف معناه قبل أن يبلغ مصبّه.
الاحتفاء هنا بمن يصرّ على أن يقود المسار لا أن يُقاد، بمن يحفظ اتجاه الجريان حين يضيق الزمن، ويمنح الطفل فرصة أن يفهم العالم لا أن يمرّ به مروراً عابراً، وبمن يدرك أن التعليم، في جوهره، ليس إجراءً ولا عادة يومية، بل فعل رعاية للمعنى، وصيانة للكرامة، وحماية للخيال من التآكل الصامت.
شبكة فلسطين للأنباء – شفا الشبكة الفلسطينية الاخبارية | وكالة شفا | شبكة فلسطين للأنباء شفا | شبكة أنباء فلسطينية مستقلة | من قلب الحدث ننقل لكم الحدث .