
قراءة متعمقة في “صفحة بلا جسد” للكاتبة ماتيلدا عواد ، بقلم: رانية مرجية
- العدم كخلفية للوجود
منذ الجملة الأولى، تُعلن ماتيلدا عواد ثورتها على الفكرة القديمة للكتابة:
“الصفحة تبدأ بلا ورق، والحروف تهرب من نفسها قبل أن تُكتب.”
هنا، الكاتبة لا تكتب “نصًا” بالمعنى التقليدي، بل تؤسّس فراغًا مقدّسًا، مساحةً يكون فيها الوجود هشًّا إلى درجة لا يُمسَك فيها.
إنها لا تبدأ بالصفحة، بل باللاصفحة؛
لا بالحبر، بل بصدى ما لم يُكتب بعد.
الكتابة هنا ليست فعلًا لغويًا، بل موقفًا كونيًا — مقاومة ضد فكرة الثبات.
كأن ماتيلدا تقول: “كل ما يُكتب يموت، أما ما يُفكَّر فيه ولا يُقال فهو ما يبقى حيًا في الفراغ.”
- انكسار اللغة أمام ذاتها
حين تقول الكاتبة:
“الأصوات تنهار، تتفكك إلى ذراتٍ من صمتٍ لا يسمع إلا لنفسه.”
فهي لا تصف انهيارًا صوتيًا، بل تفكك اللغة في جوهرها.
إنها تُعيد الصمت إلى مكانه الأصلي: كمصدرٍ أولٍ للكلمة،
فالكلمة ليست سوى صمتٍ اكتسب شكلاً.
حين ينهار الصوت، لا ينطفئ — بل يعود إلى طبيعته النقية: السكون الواعي.
ماتيلدا لا تصمت لأنها عاجزة، بل لأنها وصلت إلى النقطة التي لا تكفي فيها اللغة لتفسير اللغة.
وهنا يكمن سحر النص: إنه يكتب بلغةٍ تتنفس داخل الصمت، لا خارجه.
- الإنسان بوصفه ظلاً يحاول أن يكتمل
“أنا أمتد في لا شيء، أتنفس بلا هواء، أكتب بلا قلم.”
هذا المقطع هو ذروة الوعي باللاوجود.
الـ“أنا” لم تعد ذاتًا بشرية، بل تجربة إدراكية مطلقة —
شعورٌ يتجاوز الجسد ولا يحتاج إلى أدوات كي يكون.
إنها لحظة خروج من الزمن، من الحواس، من التعريفات.
في فلسفة ماتيلدا عواد، الإنسان لا يعيش داخل الجسد،
بل الجسد يعيش داخل فكرة الإنسان.
وحين تنكسر تلك الفكرة، يبقى “الوعي الخام” — ذلك الوميض الذي لا اسم له.
- الغياب كأعلى أشكال الحضور
“الأفكار تحترق قبل أن تولد، فتبقى فقط الشظايا.”
في هذا الاحتراق، يكمن الإبداع.
ماتيلدا لا ترثي المعنى الضائع، بل تمجّد لحظة احتراقه.
فالاحتراق ليس موتًا، بل تطهّرًا من اللغة الميتة.
الشظايا هنا ليست بقايا فكرة، بل ميلادًا جديدًا لفكرٍ لا يقبل الاكتمال.
الاكتمال موت، والنقص حياة.
وهذا النص كله هو احتفاء بالنقص —
احتفاء بأن نكون كائناتٍ لم تكتمل، ولم تُغلق معناها بعد.
- عندما يصبح الصمت كائنًا ناطقًا
“حتى الصمت صار يصرخ باسمي.”
إنه مشهدٌ كونيّ، يشبه ارتداد الكون على نفسه.
حين يصل الوعي إلى ذروته، يبدأ الصمت في الكلام.
الصمت لا يعود عدمًا، بل يتحول إلى كائنٍ يعرّفك بنفسك.
إنه “الآخر المطلق” الذي يراك حين تنسى نفسك.
في هذه اللحظة، لا تعود “ماتيلدا” هي من تكتب،
بل النصّ نفسه هو من يكتبها.
إنها الكتابة التي تعكس كاتبتها بدلاً من أن تمثلها —
تمامًا كما تعكس المرآة الوجوه، لكنها لا تحتفظ بها.
- النهاية التي تبدأ منها الأشياء
“ربما أنا صفحة بلا جسد، وربما العالم مجرد انعكاسٍ في عينٍ لم تُخلق.”
في الختام، تفتح الكاتبة بوابة الميتافيزيقا على مصراعيها.
الصفحة بلا جسد = الوعي بلا مادة.
العالم انعكاس في عين لم تُخلق = الواقع فكرة لم تكتمل.
هنا تتماهى ماتيلدا عواد مع الفلاسفة الصوفيين والوجوديين،
لكنها تتفوق عليهم بلغةٍ أنثوية شفافة،
تحمل الحضور في الغياب كما تحمل السماء نجوماً لا تُرى.
الغياب هنا ليس فقدًا، بل المكان الذي وُلد منه كل شيء.
إنه الذاكرة الأولى للوجود، والظلّ الذي لا يزال يبحث عن صاحبه.
- خلاصة الرؤية: الكتابة كعبور بين العالمين
في «صفحة بلا جسد»، لا تكتب ماتيلدا عن نفسها فقط،
بل عن كل روحٍ تحاول أن تفهم وجودها خارج اللغة.
النص ليس قصيدة، بل طقس عبور —
من المادة إلى المعنى، من الجسد إلى الجوهر، من الصوت إلى الصمت.
إنه بيانٌ وجوديّ، يذكّرنا أن ما نكتب لا يعبّر عنّا تمامًا،
بل عن ذلك الجزء فينا الذي لا يُكتب أبدًا.
وهكذا، حين ننهي القراءة، لا نغلق الصفحة،
بل نكتشف أننا نحن الصفحة —
نحن ذلك “اللاشيء” الذي يكتب نفسه كل مرة في شكلٍ جديد.
صفحة بلا جسد – بقلم : ماتيلدا عواد
الصفحة تبدأ بلا ورق،
والحروف تهرب من نفسها قبل أن تُكتب.
أنا أراقب الفراغ وهو يراقبني،
ونحن نتبادل الوجود بلا لقاء.
الأصوات تنهار،
تتفكك إلى ذراتٍ من صمتٍ لا يسمع إلا لنفسه.
كل شيء يتلاشى في لحظةٍ لم تُولد بعد،
والعالم يختبئ خلف الظلال التي لم تُرسم.
أنا أمتد في لا شيء،
أتنفس بلا هواء،
أكتب بلا قلم،
وأقرأ بلا عينين.
الأسماء تفقد صلابتها،
والكلمات تصبح أطيافًا،
والأفكار تحترق قبل أن تولد،
فتبقى فقط الشظايا،
شظايا أنا،
شظايا الغياب،
شظايا الوجود الذي لا يعرف نفسه.
حتى الصمت صار يصرخ باسمي،
يحملني إلى ما وراء كل بداية ونهاية،
إلى مساحةٍ لا تحدها حدود،
إلى فراغٍ يُكتب فيه كل شيء بلا كتابة.
ربما أنا صفحةٌ بلا جسد،
ربما العالم مجرد انعكاسٍ في عينٍ لم تُخلق،
ربما كل شيء هنا،
ما هو إلا شعورٍ بالغياب…
الغياب الذي يكتبنا ونحن نحاول أن نكتب أنفسنا.