
قراءة وجدانية موسّعة في مسيرة أديب جهشان وميلاد مسرح الحياة في الرملة ، بقلم : رانية مرجية
أديب جهشان… المعلّم الذي جعل المسرح بيتًا للحياة
حين أكتب عن أديب جهشان، أكتب عن ذاكرة المسرح العربي في هذه البلاد،
عن الرجل الذي لم يكتفِ بأن يُخرج العروض، بل أخرج من داخلنا الإنسانَ الجميل الذي كدنا ننساه.
في كل خطوة من مسيرته، كان يزرع بذرةً للحلم،
وفي كل خشبة يقيمها، يكتب فصلًا من فصول المقاومة الثقافية النبيلة.
لقد كان لي الشرف العظيم أن أكون من الذين أسّسوا معه — ومع مدير المركز الجماهيري آنذاك ميخائيل فانوس، والممثلة القديرة خولة دبسي — مسرح “الحياة” في الرملة.
ذلك المسرح الذي وُلد من رحم الحاجة، ومن الإيمان بأن الفنّ يمكن أن يُعيد للمدينة نبضها،
وللإنسان صوته، وللثقافة مكانها الطبيعي في القلب لا على الهامش.
ميخائيل فانوس … الريادة التي فتحت الأبواب
ولا يمكن أن تُذكر حكاية “مسرح الحياة” دون أن يُذكر ميخائيل فانوس بكل فخر وامتنان.
لقد كان أول مدير مركز جماهيري في البلاد يفتتح مسرحًا منذ 15 عامًا،
كاسرًا بذلك تقاليد العمل الإداري البارد،
ومثبتًا أن المركز الجماهيري يمكن أن يكون رحمًا للفنّ، لا مجرد قاعة للأنشطة.
كان يؤمن بأن الثقافة حقّ، وأن المسرح مدرسة للحياة،
وأن المجتمعات لا تتقدّم بالمال وحده، بل بالجمال والمعنى والوعي.
بشجاعته، وبقدرته على تجنيد الموارد كي يصير الحلم واقعًا،
فتحت الرملة بابًا كان مغلقًا لعقود،
ومن بعده، تشجّع مديرو مراكز جماهيرية آخرون — مثل المركز الجماهيري في رهط — على إنشاء مسارح داخل مراكزهم،
مقتنعين بأن المسرح يمكن أن يُربّي جيلًا جديدًا من المواطنين الأحرار،
القادرين على التفكير، والتعبير، والحلم.
إنّ ما فعله ميخائيل فانوس لم يكن مشروعًا إداريًا،
بل فعل إيمانٍ ثقافيّ نادر، جعل الرملة منارةً ومثالًا يحتذى به.
خولة دبسي… الروح التي أزهرت في الحلم
ولا يكتمل هذا المشهد دون ذكر الممثلة القديرة خولة دبسي،
التي شاركتنا التأسيس بروحها الدافئة وحسّها الفنيّ العالي.
كانت ترى في المسرح بيتًا للمرأة كما للرجل،
وصوتًا للصدق قبل أن يكون وسيلةً للتسلية.
وجودها بيننا كان بركةً من الفنّ والإنسانية،
وكانت تؤمن مثلنا بأن كل عمل مسرحي هو شكل من أشكال الصلاة الجميلة.
تجربتي الشخصية… بين الترجمة والإعداد
كان لي شرفُ أن أكون إلى جانب أديب في مراحل الإبداع الفني ذاته،
فقد ترجمتُ عددًا من المسرحيات وأعدتُ صياغتها من جديد لتناسب واقعنا وثقافتنا ولغتنا الحيّة.
كنت أرى في كل نصٍّ نعيد خلقه جسرًا بين الثقافات، ومساحةً للحوار الإنسانيّ العميق.
كان أديب يقول لي دائمًا:
“النصّ لا يعيش إن لم يُزرع في أرض الناس.”
وكان يؤمن بأن الترجمة ليست نقلًا حرفيًا، بل بعثٌ جديدٌ للحياة في روح العمل.
وهكذا، صارت كل مسرحية نعمل عليها ولادةً ثانية للنص ولنا نحن أيضًا.
من “الحياة” إلى حياةٍ أوسع
تحوّل “مسرح الحياة” بسرعة إلى نقطة ضوءٍ في المشهد الثقافي الفلسطيني في الداخل.
أصبح البيت الأول لعشرات المواهب الشابة،
ومنبرًا يعيد للمدينة ثقتها بنفسها.
بفضل أديب وجهوده التربوية، وبفضل الدعم المستنير من ميخائيل فانوس،
تحوّل الحلم إلى مؤسسةٍ فاعلةٍ وحاضرةٍ في الوجدان العام.
وأهمّ ما في التجربة أنّها كسرت الحاجز بين الجمهور والمسرح:
لم يعد المشاهد غريبًا عن الخشبة، بل صار جزءًا منها،
وشريكًا في الحكاية لا متفرّجًا عليها.
أديب جهشان… الإنسان الذي اختار الطريق الأصعب
كل من يعرف أديب يدرك أنه لا يسير في الطرق المعبّدة.
هو دائمًا في الهامش الجميل، حيث يولد الإبداع الحقيقي.
يضحك من قلبه، يعلّم بصبر، يزرع الأمل في من حوله دون أن يرفع صوته.
علّمنا أنّ الفنّ فعل صدق، وأن المسرح لا يعيش بالكهرباء بل بالنبض الإنسانيّ.
ختام وجداني
حين أنظر اليوم إلى الوراء، أرى أنّ ما أنجزناه معًا لم يكن مسرحًا فقط،
بل حياةً جديدة أُعطيت لمدينةٍ كاملة.
ف أديب جهشان كان الروح،
وميخائيل فانوس كان الشجاعة التي جعلت الحلم ممكنًا،
وخولة دبسي كانت الضوء الذي زيّن الحكاية بالأنوثة والرقيّ،
وأنا كنت سعيدة أن أكون الترجمان الذي حوّل الفكرة إلى لغةٍ تُرى وتُسمَع وتُحَبّ.
إن مسرح الحياة لم يكن بناية، بل رسالة.
رسالة تقول: إن الفنّ يمكن أن يكون خلاصًا،
وأنّ المدينة حين تؤمن بثقافتها تُشفى،
وأنّ المسرح حين يولد من الحبّ، يخلّد أسماء من أحبّوه.