11:59 صباحًا / 8 ديسمبر، 2025
آخر الاخبار

الإعلام التربوي في تعليم الكبار ، مجتمعات ما بعد الكارثة ، بقلم : نسيم قبها

الإعلام التربوي في تعليم الكبار : مجتمعات ما بعد الكارثة ، بقلم : نسيم قبها

كان تعليم الكبار ملاذا شخصيا ومجتمعيا في فنّ ممارسة الحياة ، و في ظلّ الحطام الماديّ والاجتماعي لمناطق الأزمات العربية التي نعيشها ، يبرز سؤالٌ مصيري: كيف يمكن للتعليم أن يتحوّل من نشاطٍ ثانوي إلى فعل مقاومة وجودي؟ هنا، يتجلّى دور الإعلام التربوي ليس كأداة نقل تقليدية، بل كفلسفة وممارسة تحوّلية تلتقي مع جوهر تعليم الكبار (الأندراغوجيا) لصناعة مساحات للتعافي والتغيير.

إن طبيعة التعلّم الذاتي والمرونة التي يرتكز عليها تعليم الكبار تتناغم مع واقع الطوارئ، حيث تتفكك المؤسسات التقليدية. هنا يأتي الإعلام التربوي ليملأ هذا الفراغ عبر استراتيجيات التعلّم المدمج و التعلّم عن بُعد غير المتزامن، مُحوّلاً الإذاعات المحليّة، الرسائل النصيّة، وحتى منصّات التواصل الاجتماعي إلى فصول افتراضية قادرة على اختراق الحواجز الجغرافية والأمنية. فهو لا يقتصر على نقل المعرفة، بل يسعى لـ التمكين عبر بناء المحاور النقدية و محو الأمية الإعلامية، ليصبح المتعلّم قادراً على تمييز المعرفة في خضمّ فيض المعلومات والتضليل الهائل.

فلسفياً، يمكن النظر إلى هذا التقاطع بين الإعلام التربوي وتعليم الكبار في مناطق الأزمات كتجسيد لفكرة “التعليم التحويلي” كما صاغه جاك ميزيرو ذات مرة. فهو لا يهدف لترميم الواقع فحسب، بل لإعادة تشكيل وعي الفرد والجماعة. من خلال محتوى إعلامي تربوي يُصمّم بمشاركة الكبار (التعلّم التشاركي)، ويناقش قضاياهم الوجودية من بقاء، هويّة، وعدالة، يتحوّل التعليم هنا إلى فعل تحرري. يصبح الإعلام التربوي وسيلة لـ إعادة بناء الذات الجماعية، حيث تساهم قصص النجاح والتجارب المُلهمة التي يبثّها في صناعة سردية بديلة عن سردية الدمار، وتعزيز الصمود النفسي والاجتماعي.

غير أن هذا المسار يحمل تحديات منهجية وجوهرية. كيف نحقق التكافؤ في الوصول الرقمي في ظل انقطاع الكهرباء والإنترنت؟ وكيف نصمّم محتوى يراعي الحساسية الثقافية و الصدمات النفسية دون إعادة إنتاج الألم؟ هنا، يتطلب الأمر تبني تصميم تعليمي مرن قائم على تحليل الحاجات الفعلية للمجتمع، واستخدام التقنيات منخفضة التكلفة، ونعيد تعريف “المعلم” ليكون ميسّراً و شريكاً في إنتاج المعرفة، لا مجرّد ناقلٍ لها.


إن منظور الإعلام التربوي لتعليم الكبار في سياق الأزمات هو دعوةٌ لانتشال التعليم من إطاره المؤسسي الضيق وزرعه في قلب الحياة اليومية المتعثّرة. إنه رهان على أن عملية التعلّم مدى الحياة يمكن أن تكون حبل النجاة الوجودي، حيث يصبح كلّ برنامج إذاعي، كل مجموعة واتساب تعليمية، أو حلقة نقاش في ملجأ وخيمة ، لبنةً في بناء مناعة معرفية تقاوم التشظي. في هذه المنطقة، لم يعد التعليم ترفاً، بل هو إعلانٌ عن إصرارٍ بشري على استمرارية الحضور والفكر، وهو ما يُعدّ، في جوهره، أعلى أشكال المقاومة.


يتطلب تحقيق هذه الرؤية التحويلية الانتقال من التنظير إلى آليات تصميم دقيقة، تجعل من الإعلام التربوي فضاءً للتعلّم الاستقصائي ، مع ملاحظة أنه يجب أن يُصمَّم المحتوى ليحفز التساؤل والحوار النقدي حول الأزمة ذاتها، عبر برامج تحوّل المستمع أو المشاهد من متلقٍ سلبي إلى باحث نشط عن حلول لمشكلاته اليومية. وهذا يتطلب تبني تصميم تعليمي قائم على السياق المعاش، حيث تُشتق المضامين من واقع المتعلمين المباشر، كبرامج عن الصحة النفسية الجماعية، أو إدارة الموارد الشحيحة، أو الحقوق القانونية في النزاع، مما يعزز التعلّم الوظيفي المرتبط بالبقاء والكرامة.

بالإضافة إلى ذلك، يجب أن يتسم الإعلام التربوي في هذه السياقات بـ المرونة اللغوية والثقافية. في مناطق تتعايش فيها لهجات وأعراق متعددة تحت وطأة النزاع، فلا يمكن للمحتوى أن يكون أحادي اللغة أو ثقافياً. هنا، تبرز أهمية التعليم متعدد الثقافات عبر الإعلام، باستخدام لغات محلية وروايات تراثية مشتركة، مما يحول وسائل الإعلام إلى جسور لاستعادة التماسك الاجتماعي المتهالك وبناء الهوية المركبة التي تقبل التنوع ضمن الإطار الوطني.

أخيراً، لا يمكن لهذه العملية أن تكون عشوائية. يحتاج نجاحها إلى تقييم تكويني مستمر، لا يقيس استيعاب المعلومات فقط، بل يقيس الأثر النفسي والاجتماعي. هل ساهم البرنامج الإذاعي في خفض حدة التوتر الجماعي؟ هل دفعت سلسلة الرسائل النصية مجموعة من النساء لبدء مشروع صغير؟ إن تطوير مؤشرات لقياس التعلّم غير الرسمي و التأثير المجتمعي يصبح جزءاً من الفلسفة نفسها، حيث يتحول التعلم نفسه إلى فعل توثيقي يسجل رحلة المجتمع في الصعود من تحت الركام.

وبهذا، يتجاوز الإعلام التربوي دوره الإخباري أو الترفيهي، بل وحتى التعليمي التقليدي، ليصبح جهازاً للاستبصار المجتمعي . إنه يعيد تشكيل الوعي الجمعي في اللحظة التي يبدو فيها المستقبل منعدماً، مُقدّماً التعليم كـ فعل أمل مُنظّم . في هذه المناطق، حيث تُسحب البساط من تحت القدمين، يصبح بناء عقل نقدي، متعلم، وقادر على التكيف هو الأرض الوحيدة الثابتة التي يمكن الوقوف عليها. وهذا هو جوهر التربية التحررية التي حلم بها فلاسفة التربية ، والتي تنادي بها الحملة العالمية والعربية للتعليم ، والتي تتحقق اليوم ليس في قاعات الدراسة، بل على أثير الراديو وعلى شاشات الهواتف في خيمة نزوح أو تحت القصف.

  • – : نسيم قبها – باحث في الشأن التربوي -الإئتلاف التربوي الفلسطيني الحملة العربية للتعليم

شاهد أيضاً

التحديث الصيني النمط يضخ حيوية جديدة لتوسيع التعاون الصيني – العربي

شفا – (شينخوا) – وسط الجهود المتواصلة التي تبذلها الصين لدفع عملية التحديث الصيني النمط، …