12:35 صباحًا / 27 سبتمبر، 2025
آخر الاخبار

حين تتحول المذكرات إلى مرآة إنسانية كونية ، قراءة في «نظرة إلى الإمام – مذكرات (ج2)» لكاظم حسن سعيد ، بقلم: رانية مرجية

حين تتحول المذكرات إلى مرآة إنسانية كونية ، قراءة في «نظرة إلى الإمام – مذكرات (ج2)» لكاظم حسن سعيد ، بقلم: رانية مرجية

مدخل: الكتابة ضد النسيان

الذاكرة ليست مخزنًا محايدًا، بل ساحة صراع بين الرغبة في النسيان وواجب الشهادة. حين يكتب كاظم حسن سعيد الجزء الثاني من «نظرة إلى الإمام»، فإنه لا يسرد ماضيه فحسب، بل يضعنا أمام فعل مقاومة مزدوجة: مقاومة محو الذات، ومقاومة محو الجماعة.

المذكرات هنا ليست رفاهية شخصية، بل ضرورة وجودية: كأن الكتابة هي الطريق الوحيد لحماية الكرامة من التبخر.

العنوان: ازدواجية «النظرة» و«الإمام»

العنوان ليس بريئًا:

النظرة: فعل قصير في الزمن، لكنه كثيف في الدلالة؛ رؤية تُنتج معنى، ومساءلة تكشف ضعف الإنسان وقوته.

الإمام: ليس فقط مرجعية روحية، بل رمز للسلطة الأخلاقية والاجتماعية التي تهيمن على المخيال الجمعي.

الجمع بينهما يحيل إلى سؤال أعمق: هل ننظر إلى الإمام كرمز مطلق يعلو فوق النقد، أم كإنسان يُعاد فهمه عبر التجربة؟ النص يقترح أن المقدس لا يكتمل إلا حين يُرى بعيون البشر.

البنية: فسيفساء الذاكرة

الجزء الثاني لا يُبنى على خط سردي تقليدي. بل هو فسيفساء وجدانية: لقطات، ومضات، تفاصيل يومية تتحول إلى إشارات كبرى.

غياب التسلسل الزمني الصارم يعكس حقيقة أن الذاكرة لا تُستدعى بترتيب الأحداث، بل بترتيب الجروح. كل ومضة تفتح بابًا على سؤال، وكل ذكرى تكشف هشاشة الذات أمام سلطة المكان والدين والعائلة.

الصوت السردي: الأنا المنكسرة التي تقول نحن

المؤلف يكتب بصوتٍ يتأرجح بين الأنا الفردية والنحن الجماعية.

هو لا يقدّم نفسه بطلاً، بل إنسانًا متردّدًا، مُثقلًا بالأسئلة. لكن هذه الهشاشة بالذات هي ما تمنح النص قوته: إنها تجعل القارئ يرى نفسه في مرآة الآخر.

إنها سيرة الذات التي تتحول إلى سيرة جيل: جيل عاش بين حلم الحرية وضغط السلطة، بين حرارة المقدس وبرودة الواقع.

المكان كشخصية ناطقة

المكان ليس ديكورًا. إنه شخصية موازية. الأزقة، المدارس، المقاهي، المجالس الدينية… كلها تتحرك في النص كما لو كانت كائنات حيّة، تُشكل النفوس وتفرض مصائرها.

بهذا يصبح المكان أرشيفًا وجدانيًا: يروي التاريخ بملمس الحجر ورائحة الطقوس أكثر مما يرويه بالوثائق.

الثيمات الكبرى

المقدس واليومي: النص لا يضع الدين في مواجهة الحياة، بل يُظهر كيف يتخللها، كيف يبني الأخلاق حينًا، ويكبّل الحرية حينًا آخر.

الكرامة والذاكرة: الكتابة فعل استعادة للكرامة، لأن الكرامة لا تُعطى، بل تُستردّ من النسيان.

السلطة والعائلة: يكشف النص التواطؤ الخفي بينهما: كيف تتحول العائلة أحيانًا إلى انعكاس للسلطة، وكيف يجد الفرد نفسه محاصرًا من جهتين.

التعليم والطبقة: يظهر التعليم كأفق للخلاص، لكنه يكشف في الوقت نفسه حدود المجتمع، ويعكس التفاوت الطبقي الذي لا يزول بالجهد الفردي وحده.

اللغة: صدق الاعتراف لا بريق البلاغة

لغة كاظم حسن سعيد مقتصدة، لكنها نارية. الجمل قصيرة، لكنها تترك أثرًا طويلاً.

إنها لغة لا تُحاول التجميل، بل تكشف الجرح كما هو. إنها لغة اعتراف لا استعراض، وهذا ما يمنحها قيمة إنسانية عالمية.

من الوثيقة إلى الفلسفة

رغم طابعه التوثيقي، فإن النص يفتح أسئلة فلسفية عميقة:

هل تُحررنا الذاكرة أم تُقيّدنا؟

هل تُكتب المذكرات لنشفى، أم لتشهد، أم لنُدين؟

هل يمكن لإنسان أن يرى ذاته بصدق مطلق وهو غارق فيها؟

هذه الأسئلة تجعل المذكرات تتجاوز إطارها الشخصي لتغدو تأملًا إنسانيًا في معنى الذاكرة والكرامة.

القيمة العالمية

ما يجعل هذا النص صالحًا للنشر في أفضل الصحف، هو أنه يقدّم من خلال تجربة محلية أسئلة كونية:

علاقة الفرد بالسلطة.

جدلية الإيمان والحرية.

معنى الكرامة الإنسانية.

إنه يذكّر بأن القضايا الكبرى للإنسان متشابهة، مهما اختلفت الأزمنة والأمكنة.

خاتمة: المرآة التي لا تجامل

في «نظرة إلى الإمام – مذكرات (ج2)» لا نجد بطلاً يتباهى، بل إنسانًا يواجه مرآته دون أقنعة.

هذه الصراحة، وهذا التردد، وهذه الأسئلة التي لا تنتهي، هي ما تجعل النص وثيقة أدبية–إنسانية من الطراز الرفيع.

إنه يضع القارئ أمام حقيقة جوهرية: أن الكرامة تُصان بالذاكرة، والذاكرة لا تُصان إلا بالكتابة

شاهد أيضاً

قوات الاحتلال تحتجز نحو 100 مواطن في قرية راس كركر غرب رام الله

قوات الاحتلال تحتجز نحو 100 مواطن في قرية راس كركر غرب رام الله

شفا – تواصل قوات الاحتلال الإسرائيلي، مساء الجمعة، احتجاز نحو 100 مواطن على مدخل قرية …