
العدالة الرقمية والمسرح العالمي للجرائم.. تأمل فلسطيني ، بقلم : محمد علوش
في لحظة من لحظات التاريخ المجبولة بالدم والصمود، يطلّ قرار سلوفينيا بمنع نتنياهو من دخول أراضيها كجرس صغير لكنه عميق المعنى، يدوّي في أروقة العدالة الدولية، وليست المسألة مجرد إجراء إداري عابر، بل إشارة إلى أن العالم – وإن كان بطيئاً ومترنحاً أمام موازين القوة – قادر على أن يلتقط خيط القانون الدولي ويشده بقوة في وجه طغيان الاستعمار والاستيطان.
إنها لحظة تكسر الصمت، وتعيد للقانون هيبته أمام من اعتادوا أن ينجوا من الحساب، فنتنياهو ليس مجرد رئيس حكومة، بل رمز لآلة حرب لم تتوقف عن إراقة الدم الفلسطيني، وعن تحويل غزة إلى مسرح مفتوح لجريمة الإبادة الجماعية، وعندما تقول سلوفينيا “لا” لدخوله، فهي تقول أيضاً “نعم” لضحايا المجازر، “نعم” للمحكمة الجنائية الدولية، و”نعم” لفكرة أن المجرم مهما علا مقامه سيجد أبواباً مغلقة في وجهه.
لكن المأساة لا تنحصر في الطغاة التقليديين الذين يرتكبون جرائمهم بوجه سافر، بل تمتد إلى الشركات التي ترتدي قناع الابتكار والتكنولوجيا، فيما هي تمد خيوط الذكاء الاصطناعي والأنظمة السحابية إلى يد القاتل، فمايكروسوفت، وغيرها من عمالقة التكنولوجيا، ليست كيانات محايدة كما تدّعي، بل شريك فعلي في الجريمة، حين تسمح بتخزين بيانات الفلسطينيين وتحويلها إلى أدوات تعقب واغتيال، فهنا يصبح “البيان الرقمي” وقوداً للمذبحة، وتتحول الخوارزميات إلى سلاح لا يقل فتكاً عن القذائف.
إن العدالة التي نطالب بها ليست انتقاماً، بل صرخة إنسانية من أجل وقف استباحة الكرامة البشرية، وقد آن الأوان للمحكمة الجنائية الدولية أن تمدّ يدها لا إلى القادة السياسيين والعسكريين فقط، بل إلى كل من يسهّل الجريمة أو يغطيها أو يمدّها بالتكنولوجيا والمال، فالمسؤولية القانونية والأخلاقية لا تتجزأ، والتواطؤ جريمة لا تقل شناعة عن القتل المباشر.
من هنا يصبح الموقف السلوفيني لبنة في جدار متراكم، قد يبدو هشاً أمام جرافات القوة، لكنه يتصل بوعي جديد يتشكل ببطء في العالم، ويفرض على الشعوب والحكومات والشركات أن تعيد النظر في خياراتها، فإما أن تكون في صف العدالة، أو أن تسجَّل في قائمة الشركاء في الجريمة.
وفي هذا المفترق، نحن الفلسطينيين لسنا مجرد ضحايا، بل شهود على زمن تتحوّل فيه التقنية إلى خادم للاستعمار، ويختبر فيه ضمير العالم اختباراً عسيراً، وسنظل نطرق الأبواب، باب المحكمة وباب الذاكرة وباب التاريخ، إلى أن ينفتح أحدها ليقول: هنا تبدأ العدالة، وهنا ينتهي الإفلات من العقاب.