
البوابات الاحتلالية في القدس ، قيدٌ خانق يشرذم المدينة ويصادر حق الفلسطينيين في الحياة والتنقل ، بقلم : معروف الرفاعي
تتجدد معاناة المقدسيين مع كل بوابة حديدية أو حاجز عسكري يقيمه الاحتلال الإسرائيلي في محيط مدينة القدس وداخلها، فهذه البوابات ليست مجرد هياكل معدنية صامتة، بل هي جدران حية تقطع أوصال المدينة وتفرض قيوداً تعسفية على حياة الفلسطينيين، لتتحول إلى أداة من أدوات العقاب الجماعي والتمييز العنصري.
إن حرية التنقل ليست رفاهية، بل هي أساس حياة الناس، إذ تتوقف عليها حقوق أخرى كالعمل والتعليم والصحة والعبادة، ومع انتشار 88 بوابة حديدية في القدس وضواحيها حتى منتصف شهر ايلول/ سبتمبر 2025، بات المقدسيون محاصرين في كانتونات معزولة، تُرسم حدودها بقوة الاحتلال.
فالمرضى يواجهون خطراً مباشراً على حياتهم مع كل دقيقة تأخير على هذه الحواجز، حيث يمنع الكثيرون من الوصول إلى المستشفيات، أبرزها مستشفى المقاصد الذي يخدم شريحة واسعة من الفلسطينيين في القدس والضفة، ومستشفى المطلع المتخصص في علاج حالات السرطان ويكاد يكون الوحيد في وسط البلاد الذي تحول إليه وزارة الصحة الفلسطينية عشرات الحالات لتلقي العلاج، حالات عديدة سجلت فيها وفيات لمرضى نقلوا في سيارات إسعاف أوقفتها الحواجز لساعات.
والطلبة يضطرون لعبور بوابات يومية للوصول إلى مدارسهم وجامعاتهم، وهو ما يتسبب في تأخير متكرر، وضغوط نفسية على الأطفال والشباب، بل وأحياناً حرمان كامل من الحق في التعليم، وبعضهم لم يستطع الوصول لأداء امتحانات الثانوية العامة قبل شهرين من الآن.
أما العمال والموظفون فيخسرون ساعات طويلة من وقتهم يومياً على تلك البوابات بانتظار السماح لهم بالمرور، ما ينعكس على رزقهم واستقرار أسرهم، ويؤدي إلى تراجع اقتصادي عام في المدينة التي تعاني أصلاً من نسب بطالة مرتفعة، وفقد الكثير منهم حياته على تلك البوابات وجدار الفصل العنصري وهو يحاول الوصول إلى مكان عمله برصاص جنود الاحتلال المتواجدين على تلك البوابات.
يُحرم آلاف الفلسطينيين من الوصول إلى المسجد الأقصى وكنيسة القيامة، إلا عبر تصاريح معقدة تفرضها سلطات الاحتلال، ما يشكّل مساساً بحق أصيل من حقوق الإنسان في ممارسة شعائره الدينية بحرية.
القانون الدولي الإنساني ومواثيق حقوق الإنسان تقف جميعها ضد ما تقوم به إسرائيل في القدس:
- الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (المادة 13): يكفل حق كل فرد في حرية التنقل والإقامة.
- العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (المادة 12): يؤكد على حرية اختيار مكان السكن والتنقل دون قيود تعسفية.
- اتفاقية جنيف الرابعة (المادة 27): تلزم القوة المحتلة باحترام حياة المدنيين وحقوقهم، وعدم فرض عقوبات جماعية عليهم.
- نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية: يصنف السياسات القائمة على التمييز والفصل العنصري ضمن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.
- وبالمقابل، تُمنح حرية التنقل الكاملة للمستوطنين الإسرائيليين الذين يتجولون في نفس المنطقة دون قيود، وهو ما يكشف بوضوح طبيعة الأبارتهايد الذي تفرضه إسرائيل على الأرض.
لا يمكن النظر إلى هذه البوابات بمعزل عن المخطط الإسرائيلي الأشمل لتهويد القدس، فإسرائيل تستخدم هذه المنظومة كوسيلة لفصل القدس عن امتدادها الطبيعي في الضفة الغربية، وتحويل بلداتها وضواحيها إلى جزر منعزلة يسهل التحكم فيها، والهدف النهائي هو تقليص الوجود الفلسطيني في المدينة، وفرض واقع ديموغرافي يخدم مشاريع الاستيطان والتهويد.
أمام هذه السياسات الخطيرة، لا يكفي التنديد، بل ثمة حاجة إلى تحرك ملموس، فعربيا يجب تفعيل أدوات الضغط السياسية والدبلوماسية عبر جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، ودعم المقدسيين مالياً واقتصادياً لتثبيت صمودهم في مواجهة الضغوط المعيشية الناجمة عن هذه القيود، وإطلاق حملات إعلامية عربية موحدة تفضح جرائم الاحتلال وتعزز الوعي بالقضية المقدسية.
أما دولياً، فلا بد من مطالبة مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة بقرارات ملزمة لوقف هذه الممارسات، استناداً إلى قرارات الشرعية الدولية مثل (242) و(2334)، وإلزام إسرائيل باحترام التزاماتها كقوة احتلال، عبر تدخل اللجنة الدولية للصليب الأحمر ومؤسسات الأمم المتحدة، كما يجب تحريك ملفات قانونية ضد إسرائيل أمام المحكمة الجنائية الدولية باعتبار هذه الإجراءات ترتقي إلى جريمة ضد الإنسانية، وفرض عقوبات دولية على إسرائيل لوقف سياساتها القائمة على الفصل العنصري.
البوابات الاحتلالية في القدس ليست مجرد معابر معدنية، بل جدران صامتة تُفرّغ المدينة من مضمونها الإنساني، وتحوّل حياة أهلها إلى معاناة يومية، فهي جزء من مشروع تهويدي أكبر يسعى لطمس الهوية الفلسطينية للقدس. لكن هذه السياسات، مهما بلغت قسوتها، لن تنجح في تغيير الحقيقة الراسخة بأن القدس عربية فلسطينية، وكل إجراءات الاحتلال فيها باطلة ولاغية وفق القانون الدولي.
- – معروف الرفاعي – مستشار محافظ القدس