
إلياس خوري… الروائي الذي جعل من الذاكرة وطناً ، بقلم : محمد علوش
عام مضى على غياب إلياس خوري (1948 – 2024)، غير أنّ غيابه لم يكن غياباً بالمعنى المألوف، بل تحوّلاً آخر لحضوره، فما تزال كلماته تنبض في صدور القرّاء، ونصوصه تفتح أبواب الذاكرة على اتساعها، كأنها تستعصي على الموت وتتمرّد على النسيان.
لم يكن إلياس خوري مجرد روائي لبناني أو ناقد أدبي، بل كان ضميراً عربياً حيّاً، حمل فلسطين في قلبه ووجدانه إلى الحد الذي جعل كثيرين يظنونه فلسطينياً المولد والهوية، فمنذ أن حمل جرح هزيمة 1967 وذهب إلى الأردن لينخرط في صفوف المقاومة الفلسطينية، ويعايش المخيمات واللاجئين، صار جزءاً من الحكاية الكبرى، حكاية المنفى والعودة المؤجلة، وحكاية الخيمة التي تحوّلت إلى وطن مؤقت وذاكرة أبدية، ولم يكن انتماؤه إلى فلسطين موقفاً سياسياً عابراً، بل كان خياراً وجودياً، إذ صارت الرواية عنده سلاحاً، والكلمة خندقاً في وجه المحو، والذاكرة الشخصية جسراً إلى الذاكرة الجماعية لشعب يكتب تاريخه بالدمع والدم.
في «باب الشمس» أعاد صياغة النكبة كملحمة إنسانية تتجاوز حدود فلسطين لتشمل الإنسانية جمعاء، لأن المنفى عنده لم يكن مجرد تجربة محلية بل مرآة كونية تعكس ما في العالم من ظلم ومقاومة ورجاء.
وفي «أولاد الغيتو» كتب عن الذاكرة الجريحة كمن ينقّب في أطلال بيت مهدوم ليعيد بناءه حجراً فوق حجر، وكأن الرواية فعل إنقاذ للذاكرة من الضياع، وفعل مقاومة ضد العدم.
ومع ذلك، لم يكن إلياس خوري أسير القضية الفلسطينية وحدها، بل كان مثقفاً حراً لا يساوم على حرية الكلمة، فقد واجه الطائفية اللبنانية بلا وجل، ورفض الوصاية والهيمنة، ووقف إلى جانب الحريات العربية حيثما انتهكت، وكان مؤمناً أن الحرية لا تتجزأ، وأن فلسطين لا يمكن أن تتحرر في عالم عربي يرزح تحت الاستبداد، وهكذا اتّحد الموقف مع الإبداع في شخصه، فلا أدب لديه بلا التزام، ولا التزام بلا جماليات تدهش وتضيء.
في (القدس العربي) ظلّ يشكل حضوراً دائماً ولافتاً عبر عموده «هواء طلق»، الذي كان أشبه بنافذة تفتح على الأفق، يدخل منها ضوء الحرية وصوت الذين لا صوت لهم، حيث كتب بالجرأة التي عاش بها، وبالصدق الذي جعل القرّاء يتشبثون بكلماته كما يتشبث الغريق بخشبة نجاة.
واليوم، ونحن نحيي الذكرى الأولى لرحيله، ندرك أن الفراغ الذي خلّفه لا يملأ، لكننا نكتشف أيضاً أن نصوصه باقية بيننا لتدلّنا على الطريق، تقول لنا إن الرواية يمكن أن تكون وطناً، وإن الأدب، حين يتصل بالحق والحرية، يتحول إلى ذاكرة لا تموت.
إلياس خوري لم يكن مجرد كاتب كبير، بل كان رفيق درب في معركة الكلمة، وصوتاً لا ينكسر، وجسراً بين الحكاية والحق، بين المنفى والأمل، فسلام لروحه التي صارت جزءاً من تراب فلسطين، وخلوداً لكلماته التي ستظل شاهدة على أن الأدب، حين يكون صادقاً، هو أبهى وجوه المقاومة.
⦁ محمد علوش – شاعر وكاتب فلسطيني