
انعطافة دولية كبرى نحو فلسطين: بين مؤتمر حلّ الدولتين وإعلان نيويورك ، بقلم : محمد علوش
يشهد المشهد الدولي اليوم تحوّلاً بالغ الأهمية في المواقف الداعمة للقضية الفلسطينية، حيث بدأت بوصلة السياسة العالمية تميل نحو الاعتراف العملي بحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة على ترابه الوطني، ويأتي إعلان عدد من الدول الأوروبية المهمة نيتها الاعتراف بالدولة الفلسطينية ليشكل علامة فارقة في مسارٍ طالما تعثّر بفعل موازين القوى واختلال النظام الدولي، ويعيد رسم خطوط جديدة للصراع الممتد منذ أكثر من سبعة عقود.
لقد أسّس مؤتمر حلّ الدولتين، الذي اختتمت أعماله بإصدار إعلان نيويورك، لحظة سياسية غير مسبوقة، إذ لم يكن مجرد اجتماع دبلوماسي عابر، بل ثمرة جهدٍ استمر قرابة عام كامل من العمل المشترك بين السعودية وفرنسا، مدعوماً بتفاعل عربي ودولي متنام، بهدف صياغة رؤية جديدة لإنقاذ فرص التسوية العادلة، وقد شكّل المؤتمر منصة لإعادة إحياء الإجماع الدولي على أنّ الدولة الفلسطينية ليست خياراً تفاوضياً مشروطاً، بل حقّ أصيل ومبدأ راسخ في القانون الدولي، وأحد ركائز الاستقرار في الشرق الأوسط.
تأتي هذه التطورات الأوروبية في سياق دولي يتسم بتصاعد الإدراك بأنّ استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية يفاقم التوترات الإقليمية ويقوّض منظومة الأمن الجماعي، وإن إعلان دول كإسبانيا، إيرلندا، والنرويج – وغيرها من العواصم الأوروبية المؤثرة – عزمها الاعتراف بالدولة الفلسطينية، هو رسالة سياسية واضحة بأنّ صبر العالم بدأ ينفد، وأنّ ازدواجية المعايير في التعاطي مع القانون الدولي لم تعد مقبولة.
يحمل هذا الاعتراف المرتقب دلالات عميقة؛ فهو لا يعكس فقط تحوّلاً في المزاج السياسي الأوروبي، بل يؤشر إلى انفتاح أوسع في مواقف قوى دولية أخرى قد تجد نفسها مضطرة للحاق بهذا المسار حفاظاً على ما تبقى من مصداقيتها، كما أنّه يضع الاحتلال الإسرائيلي أمام استحقاق تاريخي جديد: إمّا الانخراط الجاد في عملية سياسية حقيقية تفضي إلى إنهاء الاحتلال، أو مواجهة عزلة متزايدة في الساحة الدولية.
ومن الناحية السياسية، يمثل إعلان نيويورك محاولة جادة لإعادة ترتيب الأوراق وإعادة القضية الفلسطينية إلى مركز الاهتمام العالمي بعد سنوات من التهميش الممنهج، أما من الناحية الأدبية والمعنوية، فإنّ هذه اللحظة تفتح نافذة أمل أمام شعبٍ أنهكته عقود الاحتلال والانقسام والحصار، وهي رسالة بأنّ الحقّ لا يموت، وأنّ النضال الفلسطيني – بكل أشكاله السياسية والشعبية والدبلوماسية – بدأ يثمر نتائج ملموسة على الأرض.
لكن، وعلى الرغم من أهمية هذه التطورات، يبقى الرهان الأكبر على القدرة الفلسطينية والعربية على استثمارها استثماراً حقيقياً، فالمطلوب اليوم بناء استراتيجية وطنية شاملة، تستند إلى توحيد الصفوف وترسيخ الشراكة الداخلية، وتعزيز التواصل مع القوى الدولية التي أبدت استعداداً لدعم حقوق الشعب الفلسطين، فالتاريخ يعلّمنا أنّ القرارات الدولية وحدها لا تصنع التحرّر، وإنما هي أداة إضافية إذا ما أحسنّا توظيفها ضمن مشروع وطني متماسك.
إنّ مؤتمر حلّ الدولتين وإعلان نيويورك قد لا يكونا نهاية الطريق، لكنهما بالتأكيد بداية مرحلة جديدة تعيد الاعتبار للمشروع الوطني الفلسطيني على المستوى الدولي، وهذه المرحلة تستدعي وعياً سياسياً يقظاً، ومبادرة فلسطينية متقدمة، كي تتحوّل هذه الموجة من الاعترافات إلى واقع سياسي يترجم على الأرض، فتشرق شمس الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس، بعد طول انتظار.