
“مؤتمر حلّ الدولتين”: أفق جديد لمسيرة الحرية الفلسطينية ، بقلم : محمد علوش
جاء انعقاد مؤتمر “حلّ الدولتين” في نيويورك ليكسر جدار الصمت الدولي السميك، ويعيد للقضية الفلسطينية مكانتها المركزية في الأجندة العالمية، وهذا المؤتمر، الذي انعقد برعاية السعودية وفرنسا، لم يكن اجتماعاً بروتوكولياً عابراً، بل محطة تاريخية تعيد رسم خرائط السياسة الدولية تجاه فلسطين، وتفتح نافذة أمل واسعة أمام شعبٍ أنهكته عقود الاحتلال والاستيطان والحصار.
انعقد المؤتمر في توقيت بالغ الحساسية، بينما تواصل حكومة الاحتلال الإسرائيلي نهجها الممنهج لتفتيت الأرض الفلسطينية وتهجير أهلها، فيما يرزح قطاع غزة تحت أبشع حرب إبادة وحصار وتجويع يشهدها تاريخه الحديث، ومن هنا جاءت مخرجات المؤتمر جريئة وواضحة: إقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود الرابع من حزيران/ يونيو 1967 خلال مهلة لا تتجاوز خمسة عشر شهراً، وهذه المهلة لم تُطرح كإطار زمني إداري فحسب، بل كمؤشر حقيقي على جدّية المجتمع الدولي في إنهاء عقود من الاحتلال، وكسر سياسة التسويف، واستعادة الاعتبار لحقوق شعبٍ دفع أغلى الأثمان من دمائه وأرضه.
البيان الختامي للمؤتمر حمل دعوة صريحة لوقف العدوان الإسرائيلي الوحشي على قطاع غزة، ليس من باب وقف إطلاق النار فقط، بل عبر إطلاق مسار متكامل لإعادة الإعمار تحت إشراف أممي وبقيادة وطنية فلسطينية، وهذه المقاربة تعكس احتراماً لسيادة فلسطين، وتؤكد وحدة الأرض والشعب في الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة، كشرط لا غنى عنه لبناء الدولة الفلسطينية المستقلة.
ولا يمكن قراءة “إعلان نيويورك” بمعزل عن الزخم الدبلوماسي الذي أحاط به، فقد مثّل اعتراف بريطانيا بالدولة الفلسطينية – بعد أكثر من ثمانية عقود على النكبة – حدثاً سياسياً وأخلاقياً ذا رمزية عميقة؛ إذ جاء بمثابة تصحيح متأخر لخطأ تاريخي ساهم في تكريس مأساة الفلسطينيين، وإلى جانب ذلك، أعلنت دول أخرى مثل مالطا نيتها الاعتراف بالدولة الفلسطينية، ما يعكس تحوّلاً ملموساً في المزاج الدولي، ويضع إسرائيل أمام عزلة سياسية متنامية.
غير أن هذه التحولات الدولية تصطدم بعقبة رئيسية تتمثل في السياسات الأمريكية المنحازة لإسرائيل، فقد أثبتت التجربة أن الولايات المتحدة ما زالت الشريك السياسي والعسكري الأول للاحتلال الإسرائيلي، وهي تستخدم نفوذها في مجلس الأمن لتعطيل أي قرارات ملزمة تُنهي الاحتلال أو تفرض وقف العدوان على الشعب الفلسطيني، ويدرك الفلسطينيون أن واشنطن، رغم تصريحاتها المتكررة حول “حل الدولتين”، تواصل دعم إسرائيل عسكرياً ومالياً، وتمنحها مظلة سياسية تحميها من أي محاسبة دولية، وهذا التناقض بين الخطاب الأمريكي والواقع الفعلي يطرح سؤالاً جوهرياً حول مدى إمكانية نجاح أي مسار دولي لا يحظى بغطاء أمريكي أو لا يتم تحييد الدور الأمريكي المعرقل.
اللقاء الوزاري الرفيع الذي انعقد على هامش المؤتمر، إلى جانب التحضيرات الجارية للقمة الدولية المقرر عقدها في سبتمبر المقبل، يعبّران عن وعي القيادة الفلسطينية بأهمية استثمار اللحظة السياسية الراهنة، فوقف العدوان، ورفع الحصار، واستنهاض الدعم الدولي لإعادة إعمار غزة، كلّها أهداف لا تتحقق إلا عبر حراك سياسي نشط يراكم الإنجازات، ويحصد المزيد من الاعترافات الدولية التي تكرّس مكانة فلسطين كدولة كاملة العضوية في المنظومة الدولية.
إن مؤتمر نيويورك، بكل ما حمله من رسائل سياسية وإنسانية، لا يمثّل نهاية الطريق، بل بدايته، فهو يضع العالم أمام مسؤوليته الأخلاقية والقانونية في تحويل القرارات والبيانات إلى واقع ملموس، فالحريّة لا تُمنح بل تُنتزع، والكرامة لا تستعاد بالشعارات، بل بالفعل الدولي الجاد الذي يضمن إنهاء الاحتلال وتجسيد الدولة الفلسطينية ذات السيادة على كامل ترابها الوطني، وفي قلب هذا المشهد يبقى الشعب الفلسطيني هو الحاضر الأكبر، بذاكرة النكبة وصوت المخيمات وملامح الصمود في غزة والقدس والخليل وطولكرم وجنين، فهذا الشعب الذي لم تهزمه المجازر ولا الجدران ولا الحصار، ما زال يكتب بدمائه اليومية ملحمة الحرية والكرامة، واليوم، أكثر من أي وقت مضى، يقف الفلسطينيون على أعتاب مرحلة قد تغيّر وجه المنطقة بأسرها، مرحلة مرهونة بقدرة المجتمع الدولي على كسر الفيتو الأمريكي وإنهاء شراكة واشنطن مع الاحتلال الإسرائيلي التي شكّلت لعقود الغطاء الأكبر لاستمرار المأساة الفلسطينية.
إن “مؤتمر حلّ الدولتين” ليس مجرد محطة في روزنامة العلاقات الدولية، بل هو استعادة لصوت فلسطين في المحافل العالمية، وتجديد للأمل بأن شمس العدالة ستشرق يوماً على أرض فلسطين، وبين معاناة الماضي وتطلعات المستقبل، يبقى الفلسطينيون متمسكين بحقهم التاريخي، يرفعون راياتهم عالياً، واثقين بأن الدولة الفلسطينية المستقلة قادمة مهما طال الزمن وقست الظروف.