
الكلمة التي تصون الهوية ، مهرجان اللغة العربية في الخليل ، منارة الثقافة والانتماء ، بقلم : محمد علوش
في مدينة الخليل، حيث تتعانق الحجارة العتيقة مع صدى التاريخ العميق، وحيث الأرواح تحفظ وقع الخطوات الأولى للأجداد في دروبها الضيقة، ينهض نادي أحباب اللغة العربية كمنارة تُضيء ليل الثقافة الفلسطينية. إنّه حارس أمين للهوية واللغة في زمنٍ تعصف به موجات التبسيط والتغريب. وفي قلب هذا المشهد، يسطع مهرجان اللغة العربية، الذي أصبح علامة ثقافية مميّزة للمدينة، حاملاً للكلمة ألقها وللحروف قوتها، مثبتًا أن اللغة ليست مجرد وسيلة للتواصل، بل هي روح الأمة ووعاء ذاكرتها ومفتاح نهضتها المستقبلية.
لقد بات المهرجان تقليدًا سنويًا ثابتًا، تتلاقى فيه القامات الأدبية والأصوات الشعرية والطاقات الإبداعية الشابة. هو فضاء واسع تلتقي فيه القصيدة بالمقالة، والحوار بالنقد، والفكر بالتجربة، ليعيد تشكيل وعي جمعي يعزز الثقة بالذات والهوية. الأمسيات الشعرية التي يحتضنها المهرجان تُعيد للكلمة صوتها المقاوم في وجه محاولات التهميش، والندوات النقدية التي تُقام ضمن فعالياته تُثري التجارب الأدبية وتفتح آفاقًا جديدة أمام المبدعين، كبارًا وصغارًا.
ويبرز في قلب هذا الإنجاز الأستاذ عباس مجاهد، قائد النادي وصاحب الهمة العالية الذي أدرك منذ البداية أن الدفاع عن اللغة العربية هو دفاع عن الوطن نفسه. بصبر المؤمن ورؤية العارف، استطاع مجاهد أن يجمع حوله نخبة من الزملاء الأوفياء الذين نذروا وقتهم وجهدهم لهذه الرسالة العظيمة. لم تكن المهمة سهلة، لكنهم، بإيمانهم العميق بقيمة ما يفعلون، صنعوا من المهرجان صرحًا ثقافيًا متجددًا يزداد قوة عامًا بعد عام.
ولعل من أبرز أسباب صمود المهرجان طوال هذه السنوات هو الدعم الخليلي الأصيل من مؤسسات المدينة وفعالياتها المختلفة. لقد أدركت المؤسسات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية في الخليل أن حماية اللغة العربية هي حماية للذاكرة الجمعية وحصانة للهوية الفلسطينية. هذا الدعم الذي قدّمته المؤسسات الوطنية، من رعاية وتمويل واحتضان لوجستي، لم يكن مجرد مساهمة شكلية، بل هو تعبير عن انتماء المدينة العميق لقيم الثقافة والوعي. وبفضل هذا السند المجتمعي، استطاع المهرجان أن يتجاوز الصعاب ويتغلب على التحديات، ليظل منارة مضيئة على امتداد السنوات.
إن مهرجان اللغة العربية في الخليل لم يعد مجرّد فعالية ثقافية عابرة، بل تحوّل إلى مشروع حضاري طويل النفس. هو فعل مقاومة ثقافية في وجه محاولات الطمس والتفريغ، وانتصار للذاكرة الوطنية التي تتكئ على اللغة كجذرٍ لا يُقتلع. ففي كل قصيدة تُلقى، وكل فكرة تُناقش، وكل كلمة تُصاغ بحب، تتجدد روح الانتماء وتترسخ القناعة أن الهوية لا تُصان بالسلاح وحده، بل بالكلمة التي تحمل في طياتها القوة والكرامة والأمل.
لقد أثبت مهرجان اللغة العربية في الخليل أن المدينة، برموزها ومؤسساتها وأبنائها، قادرة على حمل رسالة الثقافة جيلاً بعد جيل. وسيبقى المهرجان عنوانًا للثبات والوعي، ومرآةً للروح الفلسطينية التي تعرف أن الكلمة الحرة، إذا أُحسِن حملها، قادرة على أن تُبقي جذوة الهوية متقدة مهما اشتدت العواصف.