11:51 صباحًا / 3 يوليو، 2025
آخر الاخبار

ليلة واحدة في عمّان ، بقلم: محمد علوش

ليلة واحدة في عمّان ، بقلم: محمد علوش

ليلة واحدة لا تكفي لمدينةٍ تشبه قصيدةً نائمةً على صدر الجبل، كنت أعلم ذلك، وأنا أجرّ حقيبتي بخطى تشبه النداء، متوجهاً إلى فندق “بارك هويتل”، حيث يربض في قلب عمّان كذاكرةٍ عتيقة، تحرسها المصابيح الباهتة ووشوشات العابرين.


في بهو الفندق، بدت المدينة كأنها تستعدّ لنومٍ حائر، كان الهواء مبلّل بندى الحنين، والمساء يتنفّس رائحة الرطوبة والحكايات المنسية.


وضعت حقيبتي جانباً، وتطلعت إلى النافذة كمن يطيل النظرة في مرآة عمره، وحين وصلت إلى غرفتي، ألقيت بجسدي المتعب على السرير، لكن قلبي كان أكثر يقظة من أي وقت مضى.


هناك شيء يشبه النداء كان يسري في عروقي، يشدني إلى الشوارع، إلى الحارات التي تحفظ أسماءنا في بلاطها، وتعرف ارتباك خطواتنا حين كنا نبحث عن أنفسنا في وجوه الناس.


فتحت نافذتي، وكان المشهد غارقاً في ضوءٍ برتقالي خافت، ضحكاتٌ متقطعة، نداءاتُ باعةٍ يفرشون كتبهم كما يفرش العاشق قلبه، ومدينة تمشي في الذاكرة بخفة ظلّ حمامة.


نزلت، لم أكن أريد شيئاً سوى أن أمشي في عمّان، أن أتحسس نبضها كما يتحسس طفلٌ قلب أمه، وأن أمشي فيها كمن يعود من التيه إلى حضن قديم، تغيّر، لكنه ظلّ يعرف اسمه.


مررت بوجهٍ يشبه صديقاً قديماً، فابتسمت للشبه وواصلت طريقي، وعند “مطعم زرياب”، وجدتهم هناك، جلسنا حول الطاولة كما لو أننا نعيد ترتيب العمر، قطعةً قطعة.


أطباق الحمص، حديثٌ عن ديوان قادم، عن بنتٍ صغيرة تكتب الشعر خفيةً عن العالم، وعن صمتٍ كان يراقبنا بعينين ممتلئتين بما لم يقل.


بعد العشاء، افترقنا على وعدٍ مؤجَّل كالعادة، وانطلقت من زرياب إلى أرصفة الحنين،


ومقهى يشبه الطمأنينة، وآخر يشبه الحنين، ثم مكتبة صغيرة في شارع بسمان، اشتريت منها كتاباً عن بكّين، كأنني أُجهّز نفسي للغربة بالورق، لا بالمطارات.


في البسطات، فتشت في وجوه الكتب كما لو كنت أبحث عن صفحةٍ ضاعت مني قبل أعوام، وكان باعة الكتب يفرشون أرواحهم على الأرصفة، يُقلّبون الصفحات كما تقلَّب الذاكرة في ليلٍ بعيد.


في أحد المقاهي، كتبت رسالة لم أرسلها، وفي مقهى آخر، التقيت بشاعرٍ غاب عني لعشر سنوات، ثم عاد كما يعود ظلٌّ لصاحبه عند الغروب.


اقترب الفجر، والفندق ينتظر، والمطار ينتظر، وبكّين تنام على الطرف الآخر من الخريطة، لكني لم أرد الرحيل دون طقس وداعٍ يليق بالمدينة، فاتجهت إلى “مطعم هاشم”، كما يتجه المتصوّف إلى محرابه، طلبت فلافل وفولاً وحمصاً، لا كوجبة، بل كتلويحة وداع أخيرة، جلست أراقب الحيّ وهو يفتح عينيه ببطء، رائحة الخبز الطازج تعانق رائحة الطحينية، وعمّان، كعادتها، تعلّق قلبي على جدرانها كصورة قديمة لا تشيخ.


عدت إلى غرفتي كمن يعود من حجّ صغير، وضعت رأسي على الوسادة، وقلبي ما زال مفتوحاً على نافذة لا تغلق.
وفي الصباح، بينما التاكسي يقف أمام الفندق، التفتُّ إلى الشارع، وقلت له في داخلي، كمن يعلن العهد: سأعود، ولو عابراً.. سأعود يا عمّان، لأنك دائماً وجهتي التي لا تنتهي.

شاهد أيضاً

الجمعية الوطنية للتأهيل تواصل تقديم خدمات العلاج الطبيعي والتمريض مجانًا في غزة

الجمعية الوطنية للتأهيل تواصل تقديم خدمات العلاج الطبيعي والتمريض مجانًا في غزة

شفا – في ظل الظروف الإنسانية القاسية التي يشهدها قطاع غزة، تواصل الجمعية الوطنية للتأهيل …