
الشعب يقود لا القيادة: خمسون عامًا من إخفاقات السياسة وصمود الجماهير ، بقلم المهندس غسان جابر
في خمسين عامًا من النضال، عرفت القضية الفلسطينية كثيرًا من المنعطفات التاريخية. لكنها عرفت أيضًا حقيقة واحدة لا تتغير: أن الشعب الفلسطيني كان دائمًا هو المنقذ للقضية، لا القيادة. فمن كل إخفاق سياسي، ومن كل انقسام أو تسوية عبثية، كان الشعب ينهض مجددًا ليعيد البوصلة إلى مسارها الوطني الأصيل. وفي هذا السياق، ظهرت تجارب نضالية وقيادية وُلدت من رحم الناس، ومن أبرزها تجربة حركة المبادرة الوطنية الفلسطينية، التي تأسست على يد شخصيات وطنية مستقلة، لتكون تعبيرًا صادقًا عن نبض الشارع والمهمّشين، لا أداة للسلطة أو الانقسام.
من الانتفاضة إلى أوسلو: فجوة تتّسع بين الشعب والقيادة
في الثمانينات، ومع بداية الانتفاضة الأولى عام 1987، أثبت الشعب الفلسطيني أنه قادر على قيادة النضال اليومي بأدوات بسيطة. جاءت الانتفاضة بلا إذن من قيادة الخارج، بل دفعت تلك القيادة لاحقًا إلى إعادة صياغة خطابها السياسي. لكن ما لبثت أن وقعت القيادة في فخ اتفاق أوسلو عام 1993، الذي مثّل نقطة تحوّل سلبية في المسار الوطني، حيث جرى تهميش المقاومة وتفكيك البنية الشعبية لصالح مؤسسات سلطة محدودة الصلاحية وتابعة لواقع الاحتلال.
2002: ولادة المبادرة الوطنية الفلسطينية من رحم الميدان
في خضم هذه الأزمة، ومع احتدام الانتفاضة الثانية، وُلدت حركة المبادرة الوطنية الفلسطينية عام 2002، بمبادرة من رموز وطنية تمثل الضمير الجمعي لشعبنا، وهم:
الدكتور حيدر عبد الشافي، الطبيب والمناضل من غزة،
المهندس إبراهيم الدقاق، ابن القدس وقائد العمل الأهلي،
البروفيسور إدوارد سعيد، المفكر الفلسطيني العالمي،
والدكتور مصطفى البرغوثي، الطبيب والمناضل الميداني والإعلامي.
جاءت المبادرة لتكون البديل الوطني الديمقراطي، المنحاز لقضايا الناس، المؤمن بالمقاومة الشعبية، والمبادر للوحدة لا الانقسام.
حركة كل فلسطين: من الطبيب إلى العامل، من الشاب إلى الشيخ
ما يميز حركة المبادرة أنها لم تنشأ كنخبة فوقية أو تنظيم تقليدي، بل كحراك وطني شامل، ينتمي إليها الطبيب، والمهندس، والمحامي، والعامل، والمزارع، والطالب. هي حركة كل فلسطين: المرأة، الشاب، الشيخ، اللاجئ، ابن المدينة والريف والمخيم. وبهذا التنوّع، أصبحت المبادرة مرآة حقيقية للمجتمع الفلسطيني، وتعبيرًا عن طموحه في التحرر والعدالة والمشاركة السياسية.
ما بعد الانقسام: المبادرة موقف وطني ثابت لا يتبدل
منذ الانقسام الكارثي عام 2007، وقفت المبادرة الوطنية الفلسطينية موقفًا ثابتًا لا لبس فيه: ضد الانقسام، وضد القمع، وضد الفساد، ومع الوحدة الوطنية على أسس ديمقراطية وشراكة حقيقية.
ورغم الضغوط السياسية والإغراءات، رفضت المبادرة الوطنية الانخراط في لعبة المحاصصة أو شرعنة الانقسام عبر المشاركة في حكومات الأمر الواقع، واختارت أن تبقى صوتًا حرًا للمجتمع، لا جزءًا من تناقضاته.
وكانت مشاركتها الوحيدة في الحكومة الفلسطينية هي في “حكومة الوحدة الوطنية” عام 2007، التي شكلها إسماعيل هنية، والتي مثلت آنذاك بارقة أمل لتوحيد الصف الفلسطيني، قبل أن تُجهض بفعل الانقسام.
المبادرة بقيت بعد ذلك بين الناس: في القرى التي تقاوم الجدار، في المخيمات التي تواجه الحصار، في الميادين الطبية والإعلامية، وفي كل ساحة تُدافع عن الكرامة والحقوق.
المبادرة الوطنية الفلسطينية تلتحم مع نبض الشارع: من القدس إلى جنين
في كل هبّة شعبية، من انتفاضة القدس عام 2017، إلى معركة الشيخ جراح، إلى مقاومة نابلس وجنين، كانت المبادرة الوطنية حاضرة بخطاب وحدوي، شعبي، ملتزم. لم تنتظر تعليمات، ولم تبحث عن شعبية آنية، بل تحركت كما أراد الناس: ضد الاحتلال، وضد كل محاولة لتهميش المقاومة أو تفريغ النضال من مضمونه الشعبي والجماهيري.
نحو قيادة تنبع من الناس وتعود إليهم
لقد أثبتت العقود الماضية أن الشرعية لا تُمنح من الخارج، ولا تُحتكر من الداخل، بل تُنتزع من ثقة الناس وتضحياتهم. وأن القيادة الحقيقية هي التي تخرج من الناس، وتسير خلفهم، وتحمل همومهم وتفتح أمامهم أبواب الأمل.
إن تجربة المبادرة الوطنية الفلسطينية لم تكن فقط تنظيمًا سياسيًا، بل نموذجًا لقيادة تنتمي إلى الناس، وتخدمهم، وتحترم إرادتهم، وتبقى دائمًا في خندقهم.
ففي فلسطين، الشعب هو القائد، والقضية لا تُنقذ إلا بعودته لقيادة مشروعه الوطني من جديد.
- – م. غسان جابر – القيادي في حركة المبادرة الوطنية الفلسطينية