
إيران وإعادة تشكيل الشرق الأوسط: حين تفشل القوة ويُعاد ترتيب الطاولة ، بقلم : علاء عاشور
في خضم التوترات المتصاعدة في المنطقة، جاء الرد العسكري الإيراني الساحق ليشكل نقطة تحول في قواعد الاشتباك، ورسالة صارخة إلى كل من راهن على إمكانية كسر إيران بالضربات المحدودة أو الحروب النفسية. فقد أثبتت طهران أن لديها من القدرة العسكرية والإرادة السياسية ما يجعل الخيار العسكري ضدها مغامرة محفوفة بالمخاطر، وربما كارثية، ليس فقط على إسرائيل بل على الإقليم بأكمله.
الضربة الإيرانية الأخيرة ليست مجرد رد فعل عسكري، بل هي إعلان عن مرحلة جديدة من التوازنات الإقليمية. إنها تقول: إيران لم تعد معزولة، ولم تعد وحيدة في الميدان كما يُروج في الإعلام الإسرائيلي والغربي. بل على العكس، فإن الاصطفاف الدبلوماسي الروسي-الصيني إلى جانبها، والتصريحات الباكستانية الرسمية بدعم طهران إذا ما تعرضت لعدوان خارجي، تكشف بوضوح أن النظام الإقليمي يشهد اصطفافات جديدة، ربما تُعيد تشكيل خريطة النفوذ في الشرق الأوسط لعقود قادمة.
تصريحات الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بشأن ضرورة التوصل إلى حل سياسي لإنهاء النزاع، تفتح نافذة على تحول مهم في المزاج السياسي الأمريكي، الذي يدرك – بعد كل هذه السنوات من الفوضى الخلاقة والحروب بالوكالة – أن سياسة “الضغط الأقصى” لم تؤت ثمارها، وأن إيران لا يمكن إخضاعها بلغة التهديد والضغوط فقط. هذا التحول لا يعني بالضرورة أن واشنطن بصدد التحالف مع إيران، ولكنه يدل على واقعية سياسية متأخرة، تعترف بأن الحلول الدبلوماسية ليست خياراً ضعيفاً بل ضرورة استراتيجية.
وربما كان الضوء الأخضر الأمريكي لنتنياهو في تصعيده الأخير مع إيران، محاولة تكتيكية لإعادة تلميعه أمام الرأي العام الإسرائيلي المنهك بعد أشهر من حرب غزة واحتجاجات داخلية، تمهيداً للانتخابات. لكن في العمق، قد تكون هذه المناورة جزءاً من ترتيبات سياسية أكبر تهدف إلى إنهاء حرب غزة الطويلة والعبثية، والتي تحولت إلى عبء على إسرائيل أكثر مما كانت ورقة ضغط. الولايات المتحدة، التي تسعى لإعادة تموضعها عالمياً تجاه آسيا وروسيا، لم تعد ترى في استمرار الحروب الإقليمية رصيداً في استراتيجيتها الكونية، بل استنزافاً.
في هذا السياق، تبدو إيران الطرف الأكثر اتزاناً واستعداداً لصياغة مرحلة جديدة من التفاوض، ليس من موقع الضعف، بل من منطق الندية. وقد يكون هذا الوضع فرصة نادرة لدفع الجميع نحو طاولة الحوار، بما فيهم الولايات المتحدة وإسرائيل، تحت وطأة الواقع لا الأمنيات.
لكن رغم كل هذا، فإن المتغير الأهم يتمثل في غياب الفاعلية العربية. لا تزال الدول العربية، وبالأخص الكبرى منها، تتعامل مع المشهد الإقليمي بعقلية رد الفعل، تكتفي بكبح جماح النفوذ الإيراني دون صياغة مشروع مضاد، أو التأثير بشكل فعّال في رسم مستقبل المنطقة. الاكتفاء بموقع “المتفرج الغاضب” لم يعد مقبولاً، بل المطلوب هو حراك سياسي ودبلوماسي عربي يعيد للنظام الرسمي هيبته ودوره، لا فقط في تقليم أظافر إيران، بل في تشكيل معادلة تضمن الاستقرار وتحد من التفرد الإيراني والتركي والإسرائيلي بمستقبل الشرق الأوسط.
في الختام، لا يمكن استبعاد أن تكون هذه اللحظة بداية لشرق أوسط جديد، لا تُرسم ملامحه في واشنطن أو تل أبيب فقط، بل في طهران وموسكو وبكين أيضاً. لقد تغيّرت قواعد اللعبة، والأيام القادمة ستثبت أن من يستطيع الصبر، والمناورة السياسية، وتحقيق التوازن بين القوة والعقل، هو من سيكتب الفصل القادم في تاريخ المنطقة.