
انكسار عمود من أعمدة الحكاية الفلسطينية ، وداعًا لحمزة العقرباوي الذي أنقذ الذاكرة من الغياب ، بقلم : د. منى أبو حمدية
“حين يترجّل حارس الذاكرة”
ليس سهلاً أن نكتب عن الذين كانوا جزءاً من الذاكرة نفسها، لا عن أطرافها.
ليس سهلاً أن ننعى من كان يمشي بين الحكايات كمن يمشي بين أهله، يحرسها من النسيان، ويعيدها إلى الحياة كلما أوشكت أن تتوارى.
بكل الأسى، نودّع اليوم الباحث والحكواتي الفلسطيني حمزة العقرباوي، الذي غيّبه الموت في القاهرة، تاركاً فراغاً لا يُقاس بالكلمات، بل بمدى الصمت الذي خلّفه غيابه في ذاكرة الحكاية الفلسطينية.
برحيله، لا نفقد فرداً فحسب، بل ينكسر عمود من الأعمدة التي كانت تسند سرديتنا الشعبية، وتحمي تفاصيلنا الصغيرة من التلاشي.
“الحكاية بوصفها وطنًا محمولاً”
لم يكن حمزة العقرباوي راوٍ حكايات بالمعنى التقليدي، بل كان ابن الحكاية، الخارج من رحمها، والعائد إليها بوصفه شاهداً وأميناً.
كان يدرك أن الحكاية الشعبية ليست ترفاً لغوياً، ولا متحفاً جامداً، بل وطنٌ محمول على الذاكرة، يُورَّث كما تُورَّث الأرض.
اشتغل على الموروث الشعبي الفلسطيني من داخل الذاكرة لا من هامشها؛ كتب من قلب اليوميّ والعابر، من تفاصيل البيوت، واللهجات، والعادات، والإشارات الصغيرة التي تشكّل نسيج الهوية الجمعية.
كان يرى في كل حكاية وثيقة، وفي كل رواية شفهية سجلاً تاريخياً موازياً، لا يقل قيمة عن الأرشيفات الرسمية.
وفي زمن يتعرض فيه التاريخ الفلسطيني لمحاولات المحو والتشويه، جعل حمزة من الحكاية فعل مقاومة ثقافية، ومن السرد فعل بقاء.
“المكان حين يتكلم بلسان الذاكرة”
آمن العقرباوي بأن المكان ليس جغرافيا صامتة، بل نصّ مفتوح، لا يُقرأ إلا بالحكاية.
لذلك لم يكتفِ بالبحث المكتبي، بل نزل إلى الأرض، ومشى في القرى، والحقول، والبيوت القديمة، مستمعاً لما تقوله الجدران، والأسماء، والمسارات المنسية.
من خلال الجولات المعرفية التي نظّمها في الجغرافيا الفلسطينية، أعاد وصل الأرض بالحكاية، وأعاد للحجر صوته، وللمكان معناه.
لم يُقدّم التراث بوصفه فلكلوراً جامداً أو عرضاً سياحياً، بل بوصفه حياة متواصلة وسردية حيّة تنبض بالناس وتجاربهم.
وكان حضوره الفاعل في المشهد الثقافي شاهدا على إيمانه بأن حماية التراث ليست عملاً فردياً، بل مسؤولية وطنية، تبدأ بالوعي وتنتهي بالفعل.
“وجع الفقد… حين تبكي الحكاية راويها”
وُلد حمزة العقرباوي عام 1984 في بلدة عقربا جنوب نابلس، في بيئة ريفية مشبعة بعلاقة حميمة مع الأرض والذاكرة.
ومن تلك النشأة، تفتّح مشروعه المعرفي، فجمع الحكايات، ونقّب في السرديات المنسية، وأعاد الاعتبار للمكان بوصفه حاملاً للتاريخ والمعنى.
وبرحيله اليوم، أشعر — كباحثة في التراث والآثار — بأننا لا نفقد زميلاً في الحقل الثقافي فحسب، بل نفقد شاهداً نزيهاً، وذاكرةً كانت تعرف كيف تُصغي قبل أن تكتب.
وجعي ليس شخصياً فقط، بل هو وجع الثقافة الفلسطينية التي خسرت واحداً من أبنائها الأوفياء، الذين آمنوا بأن الهوية تبدأ من الذاكرة، وأن الحكاية حين تُروى بوعي، تصبح فعل خلاص.
رحم الله حمزة العقرباوي،
وأبقى أثره حيّاً في الحكايات التي أنقذها من الغياب،
وفي الذاكرة الفلسطينية التي ستظل تردّد اسمه،
كلما احتاجت إلى من يحرسها من النسيان.
- – د. منى أبو حمدية – باحثة في التراث والآثار – فلسطين
شبكة فلسطين للأنباء – شفا الشبكة الفلسطينية الاخبارية | وكالة شفا | شبكة فلسطين للأنباء شفا | شبكة أنباء فلسطينية مستقلة | من قلب الحدث ننقل لكم الحدث .