12:32 صباحًا / 19 ديسمبر، 2025
آخر الاخبار

فتح والاستدامة الثورية ، قراءة نظرية في التحرر، الزمن، وأهداف التنمية المستدامة ، بقلم : د. م. نزار عطوي

فتح والاستدامة الثورية ، قراءة نظرية في التحرر، الزمن، وأهداف التنمية المستدامة

فتح والاستدامة الثورية ، قراءة نظرية في التحرر، الزمن، وأهداف التنمية المستدامة ، بقلم : د. م. نزار عطوي

من الاستدامة التقنية إلى الاستدامة التحررية

في الخطاب الدولي المعاصر، تُختزل التنمية المستدامة غالبًا في أبعادها البيئية أو الاقتصادية، كما ترد في أجندة الأمم المتحدة 2030، بوصفها مجموعة مؤشرات تقنية قابلة للقياس والإدارة. غير أن هذا الاختزال يُفرغ المفهوم من جوهره السياسي والتاريخي، ويحوّله إلى أداة محايدة ظاهريًا، تتجاهل علاقات القوة، والاستعمار، والحرمان من السيادة.

في السياق الفلسطيني، تصبح هذه المقاربة قاصرة بطبيعتها؛ إذ لا يمكن الحديث عن تنمية مستدامة في ظل احتلال، أو إنكار للوجود، أو مصادرة للحقوق الأساسية لشعب حيّ نابض بالحياة والتاريخ. من هنا، تبرز تجربة حركة التحرير الوطني الفلسطيني – فتح – بوصفها مدخلًا نظريًا لإعادة تعريف الاستدامة، لا كمفهوم إداري، بل كقدرة شعب على الاستمرار في مقاومة الإقصاء، ومراكمة الفعل التاريخي، والدفاع عن الكرامة وتقرير المصير.

فتح كنموذج لحركة تحرر طويلة الأمد

تنتمي حركة فتح، من منظور علم الاجتماع السياسي، إلى ما وصفه تشارلز تيلي بـ«الحركات الاجتماعية ذات التعبئة الممتدة»، وهي الحركات التي لا يُقاس نجاحها بلحظة انتصار عابرة، بل بقدرتها على إعادة إنتاج ذاتها عبر الزمن. فمنذ انطلاقتها عام 1965، لم تتعامل فتح مع الثورة كحدث انفجاري مؤقت، بل كمسار تاريخي تراكمي طويل الأمد.

هذا الفهم ينسجم مع أطروحات ثيدا سكوكبول حول الثورات التي تدوم لأنها تبني مؤسسات، وتؤسس معاني وقيمًا راسخة، وتتفاعل مع المجتمع، لا لأنها تسقط أنظمة فقط. وقد أكدت فتح، نظريًا وعمليًا، أن الثورة الفلسطينية «مشوار طويل»، وأن الاستمرارية هي جوهر الفعل التحرري.

الاستقلال السياسي شرط للاستدامة (SDG 16)

يؤكد الهدف السادس عشر من أهداف التنمية المستدامة على السلام، والعدالة، وبناء المؤسسات القوية. غير أن التجربة الفلسطينية تكشف محدودية هذا الهدف حين يُفصل عن شرط التحرر من الاحتلال. فقد أدركت فتح مبكرًا أن بناء مؤسسات بلا سيادة لا ينتج استدامة، بل يعيد إنتاج الهشاشة والتبعية.

من هنا، شكّل استقلال القرار الوطني الفلسطيني جوهر المشروع الذي تمسكت به فتح، باعتباره شرطًا لأي سلام عادل، وأي تسوية سياسية، وأي بناء مؤسسي قابل للحياة. فالدولة ليست جهازًا إداريًا فقط، بل تعبير عن الإرادة والسيادة والكرامة.

العدالة لا الإغاثة: إعادة تعريف SDG 1 وSDG 10

تعامل النظام الدولي طويلًا مع الفلسطينيين بوصفهم «قضية إنسانية»: فقر، لجوء، مساعدات. فجاءت فتح لتقلب المعادلة رأسًا على عقب، مؤكدة أن المشكلة ليست الفقر، بل الاستعمار. وبهذا المعنى، أعادت الحركة تعريف مفهومي القضاء على الفقر وتقليص عدم المساواة من منظور تحرري، معتبرة أن العدالة السياسية شرط سابق للعدالة الاجتماعية، لا نتيجة لاحقة لها.

وتتجسد هذه الرؤية في مقولة الشهيد القائد ياسر عرفات حين قال إن الثورة الفلسطينية «حوّلت الفلسطينيين من منتظرين على أبواب مؤسسات الإغاثة إلى ثوار ينتظرون دورهم في معسكرات الثورة للمطالبة بحقهم المشروع في الوجود والتحرر».

التعليم والوعي الثوري (SDG 4)

لم يكن النضال الفتحاوي نضالًا عسكريًا فحسب، بل كان مشروعًا متكاملًا لإعادة بناء الوعي الوطني. فالتثقيف السياسي، وبناء الهوية، واستعادة الرواية الفلسطينية، شكّلت ركائز أساسية في استدامة الحركة.

وهذا يتقاطع مع الهدف الرابع للتنمية المستدامة، ولكن بمعناه النقدي: التعليم بوصفه أداة تحرر، لا وسيلة للتكيّف مع واقع ظالم. وليس من قبيل المصادفة أن يحافظ الفلسطيني، في كل أماكن وجوده، على حضوره الثقافي والفكري والمهني، مستندًا إلى الوعي وصناعة الذات كقاعدة للدفاع عن قضيته العادلة.

البراغماتية الثورية وإدارة الموارد (SDG 8 وSDG 12)

تُظهر تجربة فتح فهمًا عمليًا متقدمًا لإدارة الموارد في سياق صراع طويل. فقد تعاملت مع الطاقات البشرية والتنظيمية بوصفها موارد نضالية يجب حمايتها من الاستنزاف، وتجديدها باستمرار.

هذه المقاربة تلتقي مع مفاهيم العمل اللائق والنمو المستدام والاستهلاك المسؤول، ولكن ضمن سياق مقاومة تحررية، لا ضمن منطق اقتصاد السوق التقليدي. فالإنسان في المشروع الفتحاوي ليس أداة إنتاج، بل حامل قضية ومعنى.

التحالفات لا التبعية (SDG 17)

يشدد الهدف السابع عشر على الشراكات الدولية. وهنا تقدم فتح نموذجًا نقديًا مغايرًا: تحالفات سياسية واسعة دون التفريط بالقرار الوطني المستقل. فقد بنت الحركة شبكة علاقات عربية ودولية ممتدة، لكنها قاومت التحول إلى تابع أو أداة في صراعات الآخرين.

كما حافظت فتح على علاقاتها مع حركات التحرر العالمية، بوصفها حركات متشابهة في الجوهر، مختلفة في السياق، ما مكّنها من إيصال خطابها التحرري إلى مجتمعات متعددة، مستندة إلى عدالة القضية وشرعية المطالب.

ياسر عرفات: القيادة كعنصر استدامة

في علم السياسة المقارن، تُعد القيادة عاملًا حاسمًا في استدامة الحركات التحررية. ويجسّد الشهيد القائد ياسر عرفات ما سماه أنطونيو غرامشي «القيادة التاريخية»، القادرة على الجمع بين الإرادة الشعبية والواقعية السياسية.

لم يُدر عرفات الصراع فقط، بل أدار الزمن نفسه، محوّلًا الانتكاسات إلى فرص لإعادة التموضع، ومؤكدًا على منطق الديمومة حين قال: «نحن مع مجرى التاريخ، وسننتصر، طال الزمن أم قصر».

فتح كحالة نقدية للنظام الدولي

تكشف تجربة فتح التناقض البنيوي في الخطاب العالمي حول التنمية المستدامة: فلا تنمية بلا تحرير، ولا استدامة بلا عدالة سياسية. فالقضية الفلسطينية تفضح حدود المقاربة التقنية لأهداف SDGs، وتؤكد أن الاستدامة الحقيقية تبدأ حين يمتلك الشعب حقه في الأرض، والقرار، وبناء دولته المستقلة ذات السيادة.

فبعد ستة عقود، لا تُقرأ حركة فتح فقط كحركة تحرر وطني، بل كنموذج نظري وعملي لما يمكن تسميته الاستدامة الثورية: القدرة على الاستمرار، والتجدد، وبناء المعنى الوجودي، في مواجهة الاستعمار ومحاولات الإلغاء.

إن نهج الشهيد القائد ياسر عرفات نهج حي ومتجدد، وستبقى فتح ديمومة الثورة الفلسطينية واستدامتها، وستظل «العاصفة» شعلة مضيئة تجمع بين الكفاح المسلح والسياسي، حتى التحرير والنصر، بوصفها ثورة تاريخية تتحدى الزمن والنظام الدولي معًا، وتخوض أعمق معارك العصر: معركة الوجود في مواجهة النكران.

شاهد أيضاً

منصور: إعلان إنهاء الاستعمار وعد لم يتحقق للشعب الفلسطيني

شفا – عقدت الجمعية العامة للأمم المتحدة، اليوم الخميس، اجتماعا عاما رفيع المستوى لإحياء الذكرى …