3:11 مساءً / 5 ديسمبر، 2025
آخر الاخبار

أقصر مما ينبغي ، أطول مما قد نظن (الحياة في السياق الفلسطيني) بقلم : أ. مروة معتز زمر

أقصر مما ينبغي ، أطول مما قد نظن (الحياة في السياق الفلسطيني)

أقصر مما ينبغي ، أطول مما قد نظن (الحياة في السياق الفلسطيني) بقلم : أ. مروة معتز زمر

باغتني أحدهم بعبارة الحياة قصيرة، قالها كمن يلقي حكماً نهائياً على مصائر البشر، بينما كنت أقترِح لِنرى ماذا يحمل الغد.


كإنسانةٍ تدّعي التفاؤل، وتبحث للحياة عن معنى يتجاوز هشاشتها اليومية، بدا لي ذلك التعليق نمطاً من السوداوية العابرة التي لا يستوقفها أحد.. غير أنّ هذه الجملة الصغيرة، التي ظننتها شأناً لغوياً عابراً، ظلَّت طوال اليوم تقفز بين أفكاري، تتسلل إلى خططي المزدحمة، وتستقر فوق كومة القرارات المؤجلة كأنها تقول لي في كل لحظة: هل حقاً الزمن ينتظر أحداً؟


جلستُ مساءً في مواجهة نفسي وسألت السؤال الذي تهرب منه الأرواح الحثيثة في الركض: هل الحياة قصيرة فعلاً؟ وهل القِصر هنا وصفٌ للحياة، أم وصف لِوَعينا بها؟ ثم ما الحياة أصلاً؟ تلك التي استعصت على التعريف منذ فجر الفلسفة، تلكَ المتغيرة المباغتة، التي يراها كل فرد من زاويته كأنها عالم منفصل؛ هل تحمل في جوهرها قيمة إيجابية بذاتها؟ أم أنها تصبح جميلة فقط حين نلصق بها صفاتاً تُجمل قبحها، وتلين صلابتها: حياة سعيدة، حياة هانئة، حياة مطمئنة؟ فما هي كينونتها في أصلها، وما مآلها في جوهرها، وما كنهها الذي يظل يتوارى خلف طبقات التجربة اليومية؟


حين يبدأ الإنسان بالتساؤل عن كينونة الحياة فهو لا يبحث عن تعريف معجمي، بل عن انعكاس ذاته على صفحة الكون. فالحياة ليست حقيقة بيولوجية فحسب؛ إنها ظاهرة ذات طبقات: زمن، شعور، وعي، معنى، خوف، أمل، وارتباك؛ وربما لهذا السبب ظلّ مفهوم الحياة عصياً على الحسم، فهي تختلف من شخصٍ لآخر حتى وكأن البشر لا يشاركون الحياة ذاتها، بل يشاركون كلمة فقط.


أول ما يربكنا حين نقف أمام سؤال قِصَر الحياة أو طولها هو أنّنا نتعامل مع الحياة كأنها موضوع واحد، بينما هي في حقيقتها كيانات متعدّدة تتداخل: هناك الحياة البيولوجية التي يسجّلها الأطباء، وهناك الحياة الشعورية التي تتغير بمرور الوقت، وهناك الحياة الذهنية التي تبني العالم داخلنا، وهناك الحياة الوجودية التي لا يمكن قياسها بالسنين بل بالمعنى.
إذاً… هل الحياة قصيرة؟


في الحقيقة السؤال ذاته مضلِّل الحياة ليست قصيرة ولا طويلة؛ هي ما نمنحه نحن من معنى وزمن ووعي وعمق.. هناك من يحيا عشرات السنين دون أن يبدأ حياته حقاً، وهناك من يعيش ثلاثة أعوام يتحول فيها من الداخل تحولاً يجعلها أعمق من قرن.


الجواب لا يكمن في عدد الأيام بل في طبيعة التجربة.


نحن نتحدث عن الحياة كما لو أنها كيان محايد، ثابت، له قيمة داخلية.. نقول حياة جميلة، حياة قاسية، حياة سعيدة، لكن الحقيقة أنّ الحياة في أصلها بلا وصف.. هي مادة خام، شكل بلا لون، سياق بلا تفسير- نحن الذين نمنحها معناها، لا وجود لحياة جميلة… هناك إنسان يراها جميلة


حين أقول حياة جميلة فأنا في الحقيقة أصف نفسي: حالتي، ووعيي، ودرجة امتناني، وطريقة انخراطي، وحين أقول حياة قاسية فأنا أصف الجرح الذي ما زال ينزف داخلي.


الحياة ليست إيجابية بذاتها، ولا سلبية بذاتها؛ إنها تتحرّك كمرآة، تعكس شكل وعينا أكثر مما تعكس شكل العالم حولنا، وكلما نضج وعي الإنسان اتّسع إدراكه لمعنى الحياة، وكلما ضاق وعيه ضاقت الحياة نفسها حتى لو كان عمره ممتدّاً.
في العمق الفلسفي للوجود، لا يُولد المعنى جاهزاً لا أحد يعطيك معنى الحياة، لا كتب، لا مناهج، لا دين يقدّم لك إجابة نهائية، لأن الدين نفسهُ يعظّم فعل البحث والتفكُّر، لا مجرد التلقّي، فالمعنى يُصنع من خلال التجربة.


الحياة ليست درساً نتلقاه، بل مختبراً نختبر فيه أنفسنا، فنحن نخدع أنفسنا حين نبحث عن وصفة للعيش، لكن لا وصفات لا مناهج لا كتيّبات إرشاد.


لو كانت الحياة منهاجاً ثابتاً لما اختلف البشر في النظر إليها، ولما احتاج كل واحد منهم إلى سرديته الخاصة.
مركزية الحياة أنّها تمنحك الفرصة لاكتشاف ذاتك عبر ما تختبره، لا عَبر ما يُقال لك.


لهذا السبب يواجه البعض لحظة انكسار بسيطة وكأنها نهاية الكون، بينما يواجه آخر انهيارات كبرى وكأنه يخوض درساً عميقاً في الفهم.


خصوصية الحياة ومعناها لدى الفلسطينيين


حين نتناول فكرة الحياة لدى الفلسطينيين فإننا لا نتحدث عن مجموعة بشرية فقط، بل عن تجربة إنسانية نادرة يتداخل فيها الوجودي بالتاريخي، والنفسي بالجماعي، والروحي بالصراع. الحياة في الوعي الفلسطيني ليست مجرد مدة زمنية أو سياق يومي، بل حالة مقاومة مستمرة للزوال، ولذلك يكتسب مفهوم الحياة هنا معنى أعمق بكثير مما تمنحه المعاجم والفلسفات التقليدية.


الفلسطيني حين يقول الحياة، فهو لا يقصد فقط ما نعرفه جميعاً من مشاعر ونجاحات وخسائر، بل يقصد مساحة يستردّ فيها حقه في أن يكون موجوداً. ولهذا تصبح الحياة عنده أقرب إلى فعل إثبات لا فعل وجود فقط.


الحياة في المخيال الفلسطيني ليست امتداداً زمنياً بل موقفاً ليس الزمن هو ما يشكّل الحياة هنا، بل ما يُبنى في داخله من معنى. الفلسطيني يعرف أن حياته ليست مضمونة، لذلك لا يقيسها بالسنوات، بل بما يضعه داخلها من إرادة وصمود وانتظار وصلاة وذاكرة.


هذه الخصوصية تجعل الحياة الفلسطينية وحدة زمنية مشحونة بالمعنى.
يوم واحد يمكن أن يحمل من التجارب ما لا تحمله أعوام كاملة في سياقات أخرى، ولهذا نرى أن الفلسطيني، رغم القسوة، لا يتحدث عن الحياة باعتبارها قصيرة أو عبثية، بل باعتبارها حاجة أساسية للثبات على الأرض ولإثبات أنه لا يزال هنا.


الحياة لدى الفلسطينيين تجربة داخل تجربة ففي المجتمعات المستقرة يعيش الأفراد داخل حياة شخصية: دراسة، عمل، علاقات، نجاحات.


أما الفلسطيني فيعيش حياته الخاصة داخل حياة أكبر: حياة الجماعة، حياة الوطن، حياة الذاكرة، وحياة القضية.


تتشكل هويته في عدة طبقات: حياته الفردية… ثم حياته العائلية… ثم حياته الوطنية… ثم حياته الإنسانية،، كل طبقة تضيف معنى لكنها أيضاً تضيف عبئاً ومسؤولية، وهكذا لا يعود معنى الحياة مجرد قيمة فردية، بل تشترك فيه العائلة والأرض والمدن والبيوت والقبور والأغاني.. وكل ذلك يخلق حساسية روحية ونفسية عالية، تجعل الفلسطيني يشعر أن حياته ليست ملكه وحده، بل جزء من حكاية أكبر منه.


الحياة في فلسطين امتداد للذاكرة لا يوجد إنسان يعيش بالذاكرة مثل الفلسطيني، فالذاكرة عنده ليست ترفاً ولا استرجاعاً، بل مادة من مواد الوجود نفسه، هو يتذكر كي لا يُمحى.. يتذكر كي يحيا.. يتذكر كي يواصل.


ولهذا معنى الحياة لديه مرتبط بقدرته على حماية ذاكرته. الفلسطيني يقول لنفسه دائماً: إن نسيتُ… انتهيت، وإن تذكرت… بقيت.


هذه العلاقة مع الذاكرة تجعل كل لحظة يعيشها الفلسطيني محملة بعمق تاريخي وانفعالي، وتجعل الحياة ذات قيمة مضاعفة، لأنها لا تُعاش لنفس اللحظة وحدها، بل لحظة الأمس أيضاً.


الإنسان الفلسطيني يتعلم منذ صغره أن الحياة ليست مجرد حق فردي، بل مسؤولية جماعية.


كل أم تعطي أبناءها معنى الحياة بطريقة مختلفة: تزرع فيهم فكرة أنّ حياتهم تُعاش لكي يحافظوا على حياة الناس من حولهم.


كل أب يحكي قصة جده أو بيته أو شجرته ليقول: حياتك ليست عابرة، إنها امتداد لرجال ونساء عاشوا هنا وأحبوا هنا وصلّوا هنا.


هذه التربية تجعل معنى الحياة معنى اجتماعيّاً مركباً، لا ينعزل عن الحي والشارع والقرية والمخيم.


وهذا ما يجعل الفلسطيني يقاوم رغم التعب: لأنه لا يحمل حياته وحدها، بل يحمل حياة الناس الذين سبقوه والذين سيأتون بعده.


في مكان آخر تكون الحياة سعادة، بحثاً عن الذات، محاولة لتجويد الظروف.. أما هنا، فالحياة ذاتها تصبح موقفاً (الحياة كفعل مقاومة)


أن تحيا يعني أن ترفض محاولات انتهاءك.. أن تحيا يعني أن تقول للمحنة: ما زلت هنا.. أن تحيا يعني أن تقيم صمودك في وجه الانكسارات.. أن تحيا يعني أنك تؤمن أن هذه الأرض تستحق أن تُعاش عليها حياة كاملة، لا نصف حياة.
لذلك الفلسطيني لا يرى الحياة مجرد نعمة، بل أحياناً يراها أمانة؛ أمانة الحفاظ على الأرض، وعلى القيم، وعلى الذكرى، وعلى الأغاني التراثية القديمة التي بقيت حين لم يبق شيء آخر.


الحياة في فلسطين لها خصوصية نفسيَّة، فالقلق عند الفلسطيني ليس قلق الامتحانات ولا العمل ولا العلاقات.. إنه قلق على المستقبل كله، ولذلك يتعلم شكلاً من الصبر يندر أن يتقنه غيره: صبر على الفقد، صبر على الانتظار، صبر على الندوب، صبر على الحنين.


هذه الطبقات النفسية تُنتج نظرة مختلفة للحياة: فلا يتوقع الفلسطيني أن تكون الحياة سهلة، لكنه يتوقع منها أن تمنحه فرصة صغيرة كي يواصل، هي ليست حياة كاملة، لكنها حياة تستحق المحاولة.


الحياة لدى الفلسطيني… ليست أطول ولا أقصر


الحياة هنا ليست قصيرة كما يُقال، وليست طويلة كما نتخيل.. هي أثقل، وأعمق، وأكثر كثافة.. يوم واحد يمكن أن يحمل أحداثاً تكفي عمراً كاملاً في مكان آخر.


لذلك الفلسطيني يعيش الحياة بنسب مختلفة: أطول في التجربة أقصر في الأمان أعمق في الوعي أثقل في الذاكرة وأصدق في الانفعال


إن الحياة في التجربة الفلسطينية ليست مفهوماً فلسفياً فقط، ولا وصفاً نفسياً، ولا رواية اجتماعية، بل كونٌ داخلي كامل يتفتح رغم كل ما يضغط عليه.


هي ليست حياة كغيرها، لأنها تُبنى بينما تُهدَم، وتستمر بينما تُحاصَر، وتكبر بينما تُستهدف، وهذا وحده كافٍ ليجعل معنى الحياة هنا أغنى، وأوجع، وأبهى، وأشد مقاومة.


إن جوهر الحياة لا يأتي من البحث عن صيغتها المثالية، بل من التدرّب على حضورها.. الحياة ممارسة ذهنية ونفسية وروحية وهي اختيار مستمر بين البقاء نائماً داخل الزمن، أو مستيقظاً على المعنى.
(الحياة مساحة فارغة- نحن نكتبها).

  • – أ. مروة معتز زمر – أخصائية الدعم والإرشاد النفسي

شاهد أيضاً

مستوطنون يعتدون على المواطنين شرق طوباس

شفا – اعتدى مستوطنون، اليوم الجمعة، على مواطنين أثناء عملهم في أراضيهم الزراعية في خربة …