
المهد شاهدًا ، والقيامة وعدًا ، وفلسطين خيارها الوحدة ، بقلم : المهندس غسان جابر
هناك أماكن لا تمرّ في التاريخ مروراً عابراً. أماكن تولد فيها الرموز كما تولد الشعوب، وتبقى قادرة على نطق الحقيقة حتى لو تكسرت جدرانها وشاخت حجارتها وانحنى الزمن عن أبوابها.
وإذا كان للروح الفلسطينية بابٌ تعود إليه كلما ضاقت الأرض بما رحبت، فهو كنيسة المهد؛ المغارة التي أطلقت نور العالم قبل ألفي عام، وعادت اليوم لتضيء الطريق للفلسطينيين وهم يقفون على أعتاب ميلاد جديد… ميلاد وطن يريد أن ينهض من بين الركام كما تنهض المعجزات من قلب المستحيل.
وإذا كان الميلاد احتفالًا بالنور، فإن ذاكرة الميلاد في بيت لحم تخبرنا أن هذا النور لم يكن يومًا بعيدًا عن الدم. فمنذ عام 2002، كلما أُضيئت شجرة الميلاد، عاد صوت الأجراس الذي قُطع بالرصاص، وعاد اسم شهيد واحد كان جسده الضعيف يقرع جرسًا أكبر من الزمن نفسه: سمير إبراهيم سليمان… قارع جرس المهد تحت النار.
وهذه القصة ليست فصلًا من الماضي؛ إنها الجسر الذي يصل بين حصار الأمس واحتفالات السبت القادم، لتتحول المناسبة إلى أكثر من طقس ديني… إلى دعوة صريحة لإنهاء الانقسام، وبداية ميلاد فلسطيني جديد.
حصار المهد 2002… حين حوّل الاحتلال الكنيسة إلى ساحة معركة
في صباح 2 أبريل 2002، اجتاح الجيش الإسرائيلي مدينة بيت لحم ضمن عملية “الدرع الواقي”. تراجع الناس إلى آخر ملاذ يملكونه: كنيسة المهد. المكان الذي ظنّوا أن قداسته قد تردع الرصاص، فإذا بالاحتلال يحاصر حتى القداسة نفسها.
دخل نحو مئتي فلسطيني—مدنيون ومقاتلون—إلى الكنيسة، ليتحول المكان إلى قلعة محاصرة طوال 39 يومًا. قُطعت الكهرباء، الماء، الدواء والطعام. أصابت القذائف جدران الكنيسة، وسقط شهداء في باحتها، بينهم من لم يكن يحمل سلاحًا إلا صوته.
كانت الكنيسة التي ولدت فيها رسالة المحبة، تُحاصر بالرصاص. وكان العالم يكتفي بالمشاهدة.
سمير إبراهيم سليمان… رجلٌ قرع الأجراس ليرفع صوت فلسطين
في اليوم الرابع من الحصار، اقترب شاب من بيت لحم من برج الكنيسة، رغم الرصاص الذي كان يملأ السماء.
كان اسمه: سمير إبراهيم سليمان.
لم يحمل خطابًا سياسيًا، ولا بندقية، بل حمل فكرة واحدة:
أن الأجراس يجب أن تُسمع… مهما كان الثمن.
حاول الوصول إلى الحبال القديمة التي تهز أجراس الكنيسة، ليقول للعالم إن بيت لحم لا تنحني وإن الكنيسة ليست صامتة. لكن رصاص الاحتلال سبقه، واخترق جسده وهو يحاول أداء أكثر عمل رمزيّ يمكن أن يفعله فلسطيني تحت الحصار.
سقط سمير على حجارة المهد، وكأنه يقول:
“إذا مُنع الجرس من القرع… فليقرع دمي.”
امتزج دمه بدماء المقاتلين داخل الكنيسة، مسلمين ومسيحيين، ليعيد المهد دوره القديم: مكانًا تتوحّد فيه الأرواح قبل الأجساد.
المهد عبر التاريخ… أكثر من كنيسة
لم تكن كنيسة المهد يومًا مكانًا للصلاة فقط. كانت ولا تزال رمزًا سياسيًا ووطنيًا وإنسانيًا.
وحين صمدت الكنيسة أمام الحصار، صمدت معها فلسطين كلها.
وحين اخترقت القذائف جدرانها، لم تستطع اختراق معناها.
وحين أطفأ الاحتلال أنوارها، عادت لتضيء أكبر وأقوى.
لم يكن الحصار مجرد حدث؛ كان لحظة وُلد فيها جزء جديد من الهوية الفلسطينية.
من حصار 2002 إلى ميلاد 2025… الطريق ذاته لكن بالرجاء
السبت القادم، حين تُضاء شجرة الميلاد، سيعود المشهد ذاته.
لكن الفلسطينيين اليوم يرفعون دعاءً مختلفًا:
أن ينتهي الانقسام.
أن يستعيد الوطن صوته الواحد.
أن يكون الميلاد هذا العام ميلادًا سياسيًا قبل أن يكون دينيًا.
فلا معنى لأجراس الميلاد إن بقي صوتها نصف صوت.
ولا معنى لقداس المهد إن بقيت فلسطين مقسّمة بين سلطتين ورؤيتين وواقعين.
ولا معنى لمدينة وُلد فيها المسيح إن لم تُولد فيها الوحدة الوطنية.
إن الفلسطينيين الذين توحدوا تحت الرصاص قادرون على أن يتوحدوا دون رصاص.
الوحدة ليست معجزة… إنها قرار.
قداس كنيسة القيامة في ليلة الميلاد… حين تلتقي السماء بالسياسة
في ليلة الميلاد المجيد، حين يقف البطريرك في كنيسة القيامة ليعلن بشارة الميلاد وتبدأ الصلوات بالارتفاع تحت قبة المكان الذي شهد قيامة المسيح، يشعر الفلسطيني أن هذه اللحظة ليست دينية فقط، بل وطنية بالكامل.
فالقيامة في القدس لم تكن يومًا قصة روحية منعزلة؛ إنها خريطة سياسية للنهضة.
إنها تذكير بأن الحق، مهما صُلب، سيعود إلى الحياة.
وأن الشعوب، مهما وُضعت في القبور السياسية، قادرة على أن تقوم من جديد.
وفي تلك الليلة، عندما يُتلى الإنجيل داخل الكنيسة بينما الخارج محاصر بالجدران والحواجز، يصبح القداس نفسه رسالة:
أن فلسطين ستنهض كما نهض المسيح.
وأن هذا الشعب، مهما طال ظلمه، ستشرق عليه شمس القيامة الوطنية.
إن قداس القيامة في ليلة الميلاد هو لحظة تلتقي فيها السماء بالسياسة، ويصبح فيها الروحاني هو الوقود الأول للصمود الشعبي.
احتفالات السبت القادم… ليست احتفالات عابرة
عندما تُشعل بيت لحم أضواء الميلاد هذا الأسبوع (السبت 06/12/2025) ، فإنها تقوم بثلاثة أفعال في لحظة واحدة:
- تحتفل بميلاد المسيح الذي وُلد بين الفقراء والمظلومين.
- تحيي ذكرى سمير سليمان وشهداء حصار 2002 الذين قرعوا الأجراس بدمائهم.
- ترفع رسالة سياسية واضحة للفصائل والقيادات:
الوطن أكبر من الجميع، وأبهى من كل خلاف، وأغلى من أن يظل أسير الانقسام.
فالفرح في فلسطين ليس رفاهية؛ إنه مقاومة.
والاحتفال ليس احتفالًا فقط؛ إنه موقف سياسي.
وفي بيت لحم تحديدًا، يصبح الفرح صلاة جماعية تُصليها الأرض نيابة عن العالم كله.
دعاء فلسطين وبشارتها
نقول…
يا ربّ… يا من وُلد نورك في هذه الأرض، وأشرقت بشارتك من مغارة صغيرة، امنح هذا الشعب ما يستحقه من عدالة وسلام.
اجمع شمله كما تجمع شتات الروح.
احمِ كنائسنا ومساجدنا، واحمِ كل طفل ينتظر هدية الميلاد في بيت لحم أو غزة أو القدس أو الخليل أو طوباس.
واجعل ميلاد هذا العام بداية لميلاد جديد…
ميلاد وحدة، ميلاد كرامة، ميلاد وطن يخرج من محنته كما خرج النور من مغارة المهد.
وإلى أهل فلسطين جميعًا…
كل ميلاد وأنتم بخير،
كل نور وأنتم أقوى،
كل عيد وأنتم أقرب إلى بعضكم وإلى وطنكم.
فكما صمدت كنيسة المهد في وجه الدبابات، وكما قرع سمير سليمان أجراسها تحت الرصاص، ستظل فلسطين قادرة على أن تقرع أبواب المستقبل وتقول للعالم:
ها نحن نولد من جديد.
- – م. غسان جابر – قيادي في حركة المبادرة الوطنية الفلسطينية.
شبكة فلسطين للأنباء – شفا الشبكة الفلسطينية الاخبارية | وكالة شفا | شبكة فلسطين للأنباء شفا | شبكة أنباء فلسطينية مستقلة | من قلب الحدث ننقل لكم الحدث .