
تآكل الشرعية وتصدع القيادة: إسرائيل تدخل مرحلة الخطر الوجودي ، بقلم : د. وسيم وني
يعيش كيان الاحتلال الاسرائيلي منذ عامين على وقع تحوّلات دراماتيكية عكست عمق الأزمة البنيوية التي تضرب منظومته السياسية والأمنية، فالمشهد الإسرائيلي المأزوم لم يعد قابلاً للتفسير ضمن حدود الارتباك السياسي أو العثرات العسكرية، بل بات يلامس مستوى أزمة وجودية تتكشف ملامحها تدريجياً كلما امتدّت المواجهة في غزة واتسعت ساحات الاحتكاك الإقليمي.
فقد بدا واضحاً أن التحولات داخل الكيان لم تعد ذات طابع عابر، بل تمثل تحوّلاً هيكلياً يطال بنية الحكم والعقل الاستراتيجي الإسرائيلي، ويدفع نحو فقدان اتزان استراتيجي يعجز عن إنتاج قرار سياسي مستقر أو رؤية استراتيجية طويلة المدى.
حكومة اليمين المتطرف.. لحظة الانفجار الداخلي
يمكن اعتبار تشكيل حكومة الليكود المتحالفة مع التيارات الدينية والقومية المتطرفة أواخر 2022 نقطة التحوّل الكبرى في مسار الأزمة، فقد أدّى هذا التحالف إلى شطر المجتمع الإسرائيلي عمودياً، ونقل المشروع الصهيوني من إطار إدارة الخلافات إلى توسيع الانقسام وتكريسه كواقع بنيوي يصعب احتواؤه.
فبعد عقود تمكن فيها الكيان من ضبط التباينات العرقية والدينية عبر بنية قانونية وسياسية مرنة، جاءت هذه الحكومة لتضرب أساس هذا النموذج، إذ أصبح القرار السياسي أسيراً للخطاب الديني القومي المتطرّف، ما أفقد الدولة قدرتها على إدراك حدود قوتها وإمكاناتها.
احتجاجات 2023: العقد الاجتماعي يتصدّع
قد شكلت الاحتجاجات الواسعة التي شهدها كيان الاحتلال عام 2023 ضد التعديلات القضائية أحد أبرز المؤشرات على عمق التفكك الداخلي ، فقد خرج مئات الآلاف من الإسرائيليين – بينهم كبار الضباط والاحتياط – للتعبير عن مخاوفهم من انهيار منظومة “الديمقراطية الإسرائيلية”.
ولم تقف الأزمة عند حدود الشارع، بل انتقلت إلى عمق المؤسسات العسكرية والأمنية، حيث شهدت إسرائيل موجة استقالات وإقالات طالت وزير الجيش ورئيس الأركان ورئيس الشاباك ومستشاري الأمن القومي. هذا التصدع غير المسبوق كشف عن صراع محتدم بين القيادة السياسية والمؤسسة الأمنية حول اتجاه الدولة ومستقبلها.
من اختلال التوازن إلى فقدان الاتزان
يُفرَّق في الدراسات الاستراتيجية بين اختلال التوازن التقليدي – الذي يمكن تعويضه عبر التحالفات والتسليح – وبين فقدان الاتزان، الذي يُعد خللاً في بنية الحكم وطريقة التفكير السياسي، وهذا تحديداً ما يعيشه كيان الاحتلال اليوم.
فصانع القرار الإسرائيلي يراوح بين تضخيم مبالغ فيه لقدراته العسكرية وتجاهل كامل لقدرات خصومه، في ظل قراءة أيديولوجية متعصبة للواقع، وقد تجسّد ذلك في التفاخر بفتح جبهات متعددة، من غزة ولبنان وسوريا إلى الضفة والبحر الأحمر، وهو تمدد استنزافي يرهق الجيش ويدفعه إلى مرحلة إنهاك طويلة الأمد.
فالتجارب التاريخية الكبرى – من فيتنام إلى الاتحاد السوفييتي – تشير إلى أن الاستنزاف الناتج عن تعدد الجبهات كان سبباً في انهيار مشاريع توسعية كثيرة، وإسرائيل ليست استثناءً من هذه القاعدة.
تراجع الشرعية الداخلية والخارجية
على المستوى الداخلي، تُظهر استطلاعات الرأي خلال العامين الماضيين تراجعاً كبيراً في ثقة الجمهور بالمؤسسات العسكرية والسياسية، وتقدّم المعارضة بشكل ملحوظ ، كما تشير معطيات متعددة إلى تآكل ثقة الجبهة الداخلية بقدرة الحكومة على قيادة الحرب أو إدارة الأزمات المتفاقمة.
أما خارجياً، فإن خطة ترامب لليوم التالي في غزة وقرار مجلس الأمن 2803 وفّرا للاحتلال مساحة مناورة دولية، لكنها بقيت حلولاً شكلية لا تعالج جذور الأزمة، فالسردية الإسرائيلية تراجعت عالمياً بشكل ملحوظ ، وازدادت الاعترافات الدولية بالدولة الفلسطينية، ووجدت إسرائيل نفسها في عزلة سياسية غير مسبوقة منذ عقود.
إدارة الأزمات بدلاً من التخطيط الاستراتيجي
تعكس المرحلة الحالية انتقال كيان الاحتلال من عقلية التخطيط الاستراتيجي إلى منطق إدارة الأزمات اللحظية، فصمود أبناء شعبنا الفلسطيني ونجاح الدبلوماسية الفلسطينية ، أدّيا إلى ارتباك واضح في دوائر صنع القرار، هذا التحوّل جعل القيادة الإسرائيلية تدور في حلقة من ردود الفعل المتخبّطة، وهو ما يعزّز فقدان الاتزان الاستراتيجي ويعمّق الأزمة البنيوية.
سيناريوهات المستقبل: بين الاستعادة الجزئية والانهيار المفتوح
تتجه التحليلات السياسية نحو ثلاثة سيناريوهات رئيسة:
• استعادة نسبية للاتزان عبر انتخابات جديدة قد تعيد ترتيب المشهد الداخلي وتوسّع دائرة العلاقات الإقليمية.
• استمرار الفوضى البنيوية الحالية التي يغذيها الانقسام الداخلي والتوتر بين المؤسسات السياسية والأمنية.
• انهيار أعمق للمنظومة السياسية نتيجة تصاعد نفوذ التيارات الدينية القومية واستمرار الاستنزاف العسكري.
ورغم ترجيح المحللين لاحتمالات الجمع بين السيناريوهين الأول والثاني في المدى القريب، فإن احتمال الانهيار البنيوي يبقى وارداً على المدى المتوسط، خصوصاً في ظل استمرار التمدد العسكري وتراجع الجبهة الداخلية.
إن ما يبدو اليوم من “نشوة سياسية” تعيشها القيادة الإسرائيلية ليس إلا استراحة هشة سرعان ما ستتكشف محدوديتها أمام اختبار الاستحقاقات المقبلة ، فكيان الاحتلال يقف أمام أزمة مركّبة تشمل قيادته السياسية، ومؤسساته الأمنية، وجبهته الداخلية، وعلاقاته الدولية.
فنحن أمام مشروع سياسي يعاني فقداناً متزايداً للشرعية، ويعجز عن فهم التحولات الإقليمية، ويتعامل مع الشعب الفلسطيني بمنطق القوة وحدها، وهو منطق أثبت فشله مراراً عبر التاريخ.
ويبقى السؤال الجوهري الذي بات مطروحاً بقوة في الدوائر الدولية والإقليمية:
هل يمكن لإسرائيل أن تستعيد اتزانها الاستراتيجي في ظل موجة الاعترافات الدولية بالدولة الفلسطينية ونجاح الدبلوماسية الفلسطينية، ومع تصدّع بنية الحكم وغياب القدرة على إنتاج قرار مستقر؟
- – د. وسيم وني – عضو نقابة الصحفيين الفلسطينيين
شبكة فلسطين للأنباء – شفا الشبكة الفلسطينية الاخبارية | وكالة شفا | شبكة فلسطين للأنباء شفا | شبكة أنباء فلسطينية مستقلة | من قلب الحدث ننقل لكم الحدث .