
الرداء الأبيض ، من نور البداية إلى سكون الرحيل ، بقلم : هدى زوين
يولد الإنسان وهو يلتفّ برداءٍ أبيض، ناصع كصفحةٍ لم تُكتب عليها الحياة بعد. إنه رداء الفطرة الأولى، تلك البراءة التي تنبع من نقاء الروح وهدوء البدايات. لا يعرف الطفل سوى الضوء، ولا يرى في الوجوه إلا الحنان، فالعالم في نظره بسيط، واضح، خالٍ من التعقيدات.
ومع أولى خطواته في دروب الحياة، يبدأ هذا الرداء الأبيض بالتغيّر. تتساقط عليه دروس الأيام، وتلتصق به تجارب الفرح والخوف والاكتشاف. شيئًا فشيئًا، ينتقل الإنسان من بساطة الفطرة إلى وعي التجربة؛ فيتعلم الحذر، ويختبر الخيبة، ويكتشف أن الطريق مليء بما يختبر الصبر والنوايا.
وفي مرحلة الشباب، يحتدم داخله الصراع بين ما وُلد عليه، وما أصبح يراه. يشتدّ صوته الداخلي، بين ما يدعوه إليه قلبه، وما تفرضه عليه قسوة الواقع. هنا يخفت بياض الرداء قليلًا، لا لأنه اتّسخ، بل لأنه صار لوحةً تحمل آثار العمر.
وحين يصل الإنسان إلى منتصف الرحلة، يلتفت وراءه فيرى طريقًا طويلًا صقل ملامحه. يصبح أكثر وعيًا بضعفه وقوته معًا، ويقف في منطقةٍ بين صورتين:
صورة الطفولة التي تتوهج صفاءً، وصورة النضج التي أثقلتها التجارب.
يسأل نفسه:
هل ما زال بياض البداية ساكنًا في قلبي؟
أم أن الأيام سرقت شيئًا من نقائي دون أن أدري؟
ومع تقدّم العمر، تعود السكينة تدريجيًا لتتسلل إليه. يتخلّى عن صراعاتٍ لم تعد تعنيه، ويقترب من ذاته أكثر، وينصت لصوت روحه الذي طالما أرهقته ضوضاء الحياة. في هذه المرحلة يعود الرداء الأبيض للظهور مجددًا، ولكن ليس كبراءة أولى، بل كحكمة هادئة نشأت من فهم عميق لمعنى العيش.
وحين يقترب الإنسان من الرحيل، يكتمل المشهد.
تخفت الأصوات، تهدأ الخطوات، ويصبح القلب أكثر استعدادًا للسلام.
لا يرحل الإنسان فارغًا، بل يحمل معه ما تعلّمه وما سامحه وما أحبّه.
ويغادر كما جاء…
بـ رداء أبيض، لكنه الآن أبيضٌ مطمئن، ناضج، يشبه سكون الغروب بعد نهارٍ طويل.
وهكذا…
تبدأ الرحلة بنور، وتنتهي بسكون، ويظل الرداء الأبيض شاهدًا على ما بينهما من حياة.
شبكة فلسطين للأنباء – شفا الشبكة الفلسطينية الاخبارية | وكالة شفا | شبكة فلسطين للأنباء شفا | شبكة أنباء فلسطينية مستقلة | من قلب الحدث ننقل لكم الحدث .