
بين تشظّي الوعي وجماليات العدم ، قراءة نقديّة في كتاب بين الامتداد واللاوجود لماتيلدا عوّاد ، بقلم : حسن غريب أحمد
ناقد روائي شاعر
خلاصة الدراسة :
تسعى هذه الدراسة إلى تفكيك البنية الجمالية والفلسفية لكتاب بين الامتداد واللاوجود لماتيلدا عوّاد، من خلال تحليل منظومته اللغوية ورصد تحوّلات الوعي التي تقترحها الكاتبة بوصفها بديلاً عن السرد التقليدي.
وتتناول الدراسة طبيعة تشكّل “الأنا” النصية، ووظائف الزمن والمكان، وآليات اشتغال اللغة، إلى جانب الوقوف على القيمة الإبداعية للعمل ضمن سياق الأدب العربي المعاصر.
أولاً: توطئة إلى عالم النص ، الكتابة بوصفها إنتاجاً للوعي.
يشكّل كتاب بين الامتداد واللاوجود تجربة أدبية لا تهدف إلى بناء قصة أو تشكيل عالم سردي ذي حبكة واضحة، بل تُعنى ببناء فضاء معرفي تُعاد فيه صياغة الوعي عبر اللغة.
تتحرك الكاتبة ماتيلدا عواد في منطقة وسطى تجمع بين الخطاب الفلسفي والتكثيف الشعري، ما يجعل النص أقرب إلى مختبر للتجريب الجمالي منه إلى عمل سردي تقليدي.
تتسق هذه الرؤية مع الأدبيات الوجودية والميتافيزيقية التي ترى أن الوعي ليس معطى ثابتاً، بل كيان متحوّل يتشكل باستمرار داخل النص.
ثانياً: بنية الوعي غير المتعيّن، تفكك الذات وتعدد الأصوات.
تنعدم في هذا العمل الشخصيات بالمفهوم السردي المألوف، فلا حضور لذات مستقرة تُقدّم منظورًا محددًا للعالم. يشهد القارئ بدلًا من ذلك تخلق “وعي مفرد” يتشظّى إلى أصوات وظلال وصدى، دون أن يستقر في هيئة نهائية.
وتعتمد الكاتبة على صياغة تجعل من “الأنا” كيانًا مفتوحًا، ما يخلق علاقة تفاعلية بين القارئ والنص، إذ يُدعى المتلقي إلى ملء الفراغات التأويلية التي تتركها الجمل القصيرة المكثفة.
ثالثاً: الزمن والمكان ، ديناميات الانفصال ونقض الواقعية.
يتمّ تفريغ الزمن من خطيته التقليدية ليظهر بوصفه عنصرًا معرفيًا. فالزمن لا يتحرك من الماضي إلى المستقبل، بل ينقلب على ذاته، ويولد في مواقع غير متوقعة داخل الوعي.
وتقدم الكاتبة الزمن ككائن يتأمل الإنسان، وليس كإطار يقيس حركته.
أما المكان، فيظهر كفراغ دينامي، لا يحمل إحداثيات واقعية، بل وظائف رمزية: غرفة بلا جدران، بيت بلا أبواب، أرض بلا أفق.
هذه الأماكن الهشة تُحيل إلى تلاشي الركائز التي يستند إليها الوعي، وتقود القارئ إلى إدراك أن التجربة المعروضة هي تجربة وجودية قبل أن تكون سردية.
رابعاً: اللغة كمنظومة كونية ،جمالية التشظي والانزياح.
تُشكّل اللغة في هذا النص محورًا رئيسيًا، فهي ليست أداة للقول فحسب، بل تصبح موضوعًا للقول ذاته.
تميل الجمل إلى الانزياح، وتتأسس على المجاز والتمثيل والتضاد، ما يخلق طبقات دلالية متعددة.
ومع أن هذا الاستخدام المكثف للمجاز قد يفتح النص على إمكانات متعددة للقراءة، إلا أنه يضع القارئ أمام بنية تتطلب مهارة تأويلية عالية.
وتبرز خصوصية هذا الكتاب في قدرته على تحويل المفردات المجردة — كالظل، الصدى، الزمن، الصمت — إلى “كائنات” فاعلة، تشارك في بناء عالم النص وتشكّل وعيه الداخلي.
خامساً: بنية الفصول ، من الامتداد إلى الانكماش.
تتوزع الفصول على مسارات دلالية تتدرج من توسيع أفق الوعي (“نوافذ على فراغ أبدي”) إلى تضييقه (“خيوط الوعي الممزقة”)، وصولاً إلى ذروة الانكماش (“حين انقرضت الساعة وبقي الزمن يتأملني”).
لا تُركّز الكاتبة على التتابع السردي، بل على انتقالات شعورية وفكرية متتالية، تُعيد تشكيل المفاهيم الأساسية: الذات، الزمن، الحلم، الجسد، والعدم.
وبذلك، يصبح النص حركة مستمرة داخل الوعي، لا خارجه.
سادساً: التقويم النقدي للعمل
- الإيجابيات
تماسك الرؤية الفلسفية عبر فصول الكتاب.
بلاغة لغوية عالية توظف المجاز كآلية لإنتاج المعنى، وليس لتزيينه.
ابتكار صور جديدة تتجاوز مألوف اللغة العربية المعاصرة.
جرأة في تفكيك المفاهيم الكونية الكبرى وإعادة صياغتها. - الملاحظات الرؤيوية .
يغلب على النص الطابع التجريدي، ما قد يجعل تلقّيه صعبًا على القراء الذين يبحثون عن مسارات سردية واضحة.
التشابه بين بعض الوحدات النصية قد يؤدي إلى إضعاف الإيقاع العام.
الاعتماد شبه الكلي على اللغة المجازية يخلق أحيانًا مساحات مُفرغة من التدرج الفكري.
سابعاً: رؤيتي النقدية.
يمثل كتاب بين الامتداد واللاوجود إضافة مهمّة إلى الأدب العربي التجريبي، ويؤسس لنمط خاص من الكتابة الميتافيزيقية التي تجمع بين انفتاح الشعر وصرامة الفلسفة.
لقد نجحت ماتيدا عوّاد في صياغة عالم نصي ينتمي إلى أدب الأسئلة الكبرى، حيث يتجاور الوجود والعدم، ويتحوّل الوعي إلى مادة سردية، وتتخذ اللغة شكلًا كونيًا يستوعب التشظي والتحول.
هذا العمل، بما يقدمه من رؤى جمالية وفكرية، يسهم في إثراء مقاربات القراءة المعاصرة، ويُعدّ خطوة لافتة في مسار الكتابة العربية التي تبحث عن بناء صوتها الخاص.
المراجع: - جابيس، إدمون. كتاب الأسئلة. دار توبقال، الدار البيضاء، 1990.
- موران، إدغار. الطريقة: الطبيعة الإنسانية. باريس، 2001م.
- هايدغر، مارتن. الكينونة والزمان. ترجمة فؤاد كامل، عالم المعرفة.
- بورخيس، خورخي لويس. الأعمال الكاملة. بوينس آيرس، 1984.
- دريدا، جاك. في علم الكتابة. دار نينوى، دمشق، 2014م.
شبكة فلسطين للأنباء – شفا الشبكة الفلسطينية الاخبارية | وكالة شفا | شبكة فلسطين للأنباء شفا | شبكة أنباء فلسطينية مستقلة | من قلب الحدث ننقل لكم الحدث .