1:55 مساءً / 15 نوفمبر، 2025
آخر الاخبار

من رام الله تنبثق الرؤية : تعليمٌ يُخاطب الغد بعقلٍ مبدعٍ وروحٍ إنسانية ، بقلم : د. غدير حميدان الزبون

من رام الله تنبثق الرؤية : تعليمٌ يُخاطب الغد بعقلٍ مبدعٍ وروحٍ إنسانية

من رام الله تنبثق الرؤية: تعليمٌ يُخاطب الغد بعقلٍ مبدعٍ وروحٍ إنسانية ، بقلم : د. غدير حميدان الزبون


من قلب المشهد التربويّ الفلسطيني تتجاور الحكاية مع الفكرة، ويولد الإبداع من شقوق الواقع كما تتفتّق سنبلةٌ من حجر، جاء هذا التقرير شهادةً على يومٍ تألّقت فيه العقول وتماهى فيه العلم مع الهوية.


وقد أعدّته الدكتورة غدير حميدان الزبون، عضو في مؤسسة الإبداع الفلسطيني الدولية، وعضو في اللجنة التنظيمية للمؤتمر التربوي الدولي الرابع للإبداع، وإحدى مقرِّرات جلساته العلمية، وباحثةً شاركت بعملٍ علمي نال تقدير الحضور لما حمله من جدةٍ ورؤية، وقد جاء بعنوان:


“آلية توظيف الذكاء الاصطناعي في تطوير عملية الإنتاج الأدبي الإبداعي”.


هذا التقرير هو محاولة لالتقاط دهشة اللحظة، تلك التي تفتّحت فيها أبواب رام الله على نهارٍ عربيٍّ جديد.


هو نهارٌ ممسوكٌ بيد المعلّم والباحث، ومُضاءٌ بشغف الأجيال التي ترى في المعرفة طريقًا للخلاص، وفي الإبداع لغةً لمقاومة النسيان.


من بين أروقة المؤتمر ومنصّاته وجلساته النقاشية، رافقتُ نبضَ الفكرة وهي تنمو، ورأيتُ كيف يتقدّم التعليم العربي بخطواتٍ واثقة نحو عصر الذكاء الاصطناعي دون أنْ يفقد دفءَ إنسانيته وروحه. ذلك اليومُ علامة فارقة، تجتمع فيه فلسطين بكلّ مدنها وقلوبها، لتعلن أنّ الإبداع للفلسطينيين قدرٌ ومسار وبقاء.


كان صباحا فلسطينيا يضوعُ بندى الزيتون وعبقِ الميرمية، إذْ استيقظت رام الله على وعدٍ جديدٍ من الإبداع، تلك المدينةُ التي اعتادت أنْ تكون جسرًا بين الذاكرة والمستقبل، احتضنت المحطةَ الأولى من المؤتمر التربوي الدولي الرابع للإبداع، والذي جاء تحت عنوانٍ يفتح الأفق على اتّساعه:


“التعليم في الوطن العربي: نحو رؤية إبداعية في عصر الذكاء الاصطناعي.”


على أرض المعهد الوطني للتدريب التربوي، وفي شراكةٍ علميةٍ جمعت مؤسسة الإبداع الفلسطيني الدولية ووزارة التربية والتعليم العالي الفلسطينية والمجلس الأعلى للإبداع والتميّز، انطلقت الفكرةُ كحلمٍ عربيٍّ مشتركٍ يبحث عن بوصلةٍ تربط المعرفة بالإنسان، والعقل بالقيم، والتقنية بالهوية.


بدأت الفعاليات بصوتٍ يجلجل في القلوب قبل الأروقة: النشيد الوطني الفلسطيني، تلته تلاوة قرآنيّة عذبة بدت كأنها تبارك الكلمة قبل أن تُقال. كانت القاعة تضجّ بالحضور، أساتذةً وباحثين وتربويين، يترقبون لحظةَ انبثاق الرؤية الجديدة.
وفي خضمّ هذا المشهد الذي كانت فيه الكلمةُ تمشي على ضوء رؤيتها، تقدّم الدكتور وحيد جبران، منسّق المؤتمر،

ليقود الجلسة الافتتاحية بمهارةِ مَن يعرف كيف يجمع الخيوط المتناثرة في قبضةٍ واحدةٍ من الانسجام. كان حضوره هادئًا كحكمةٍ قديمة، ورشيقًا كخطوةٍ واثقة نحو مستقبلٍ يتّسع للجميع. بإدارته الرصينة تناغمت الأصوات، وتهذّبت الإيقاعات، وانساب الحوار كما لو كان نهرًا يفتح مجراه بين ضفّتين من العلم والإبداع.


تقدّم الأستاذ عدنان أبو ناصر، رئيس مؤسسة الإبداع الفلسطيني الدولية، بكلمةٍ عبر البثّ المباشر، حملت ملامح الشغف والرؤية معًا. تحدث بصوتٍ يختلط فيه الإيمان بالفعل بالحلم، قائلًا إنّ المؤتمر خطوة مباركة نحو بناء بيئةٍ تربويةٍ عربيةٍ تُواكب الثورة الرقمية دون أنْ تفقد دفء هويتها الثقافية والإنسانية.


كانت كلماته نبراسا يضيء الطريق أمام العقول الباحثة عن معنى الإبداع في زمنٍ تتسارع فيه الخوارزميات وتغيب فيه المشاعر.


ثمّ اعتلت المنصّة الدكتورة هدى أحمد، مديرة عام المؤتمر، امرأةٌ تتحدث بثقة من يعرف أنّ التغيير يبدأ من الفكرة.

تناولت في كلمتها أهداف المؤتمر ومحاوره الرئيسة، مؤكدةً أنّ الذكاء الاصطناعي لم يعد غريبًا عن القاعة الدراسية، بل بات شريكًا للمعلم وللباحث في تطوير العملية التعليمية وتعزيز التفكير الإبداعي لدى الأجيال القادمة.


كان صوتها ينساب جدولا من وضوحٍ وحنين، وهي تقول: إنّ التقنية حين تُمسك بيد الإنسان، لا تُلغيه، بل تفتح له نوافذ جديدة على المعرفة.


وجاءت كلمة الدكتورة سهير قاسم مدير عام التعليم المدرسي نيابة عن معالي وزير التربية والتعليم العالي، الأستاذ الدكتور أمجد برهم، لتمنح المؤتمر بعده الوطني والعربي. تحدّثت عن دور فلسطين الريادي في ربط الإبداع التربوي بالتحوّل الرقمي، مؤكدة أنّ الاستثمار الحقيقي هو في المعلّم الفلسطيني، ذاك الذي يقف في الصف الأول، يصنع الوعي، ويحرس القيم في وجه التيارات المتسارعة.


وفي نبرةٍ امتزج فيها العلم بالعاطفة، شدّدت الدكتورة سهير قاسم على أهمية إعداد المعلمين وتأهيلهم لمواجهة تحديات التعليم الذكي دون المساس بالهوية الوطنية والإنسانية.


وعلى ذات الخشبة، أطلّ المهندس عدنان سمارة، رئيس المجلس الأعلى للإبداع والتميّز، ليربط الحلم بالتطبيق، مؤكدًا ضرورة دعم البحث العلمي التطبيقي في مجال الذكاء الاصطناعي التربوي، وفتح جسور الشراكة بين الجامعات ومراكز الابتكار.


قال بصوتٍ يفيض يقينًا: “الإبداع هو طريقُنا للبقاء في هذا العصر.”
كانت كلماته كجسرٍ من ضوءٍ بين الواقع والطموح، بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون.


ثمّ اعتلت المنصّة الدكتورة ليلى غنام، محافظ رام الله والبيرة، فغمر صوتها القاعة بحرارة الأرض التي تمشي عليها. تحدّثت عن رمزية انعقاد المؤتمر في رام الله، مدينةٍ تصنع الأمل رغم التحديات، مدينةٍ تحرس الحلم الفلسطيني بين جدارٍ وحلمٍ.


قالت بثقة الأمّ التي تعرف أبناءها: “الاستثمار في الإنسان الفلسطيني هو الاستثمار الأصدق؛ لأنه المورد الذي لا ينضب، مهما ضاقت الأرض واتسعت السماء.”


وكانت عباراتها تُصفّق لها القلوب قبل الأيدي.


وفي مداخلةٍ حملت بُعدًا فلسفيًا، تحدّث الدكتور رمزي عودة، الأمين العام للحملة الأكاديمية الدولية لمناهضة الاحتلال والأبارتهايد، عن العلاقة بين المعرفة والحرية، مؤكدًا أن الإبداع التربوي شكلٌ من أشكال المقاومة الثقافية والمعرفية.
كانت كلماته كقصيدةٍ مقاومةٍ تقرأ المستقبل من نافذة الوعي.


وعبر البثّ من خارج الحدود، جاء صوت الدكتور محمد السريحي، رئيس المجلس العربي للإبداع والابتكار، يحمل دفء الصحراء العربية ووهج الفكر، ليؤكد على أهمية توحيد الجهود العربية لبناء رؤيةٍ تربويةٍ إبداعيةٍ مشتركة، تُسهم في تحقيق تنميةٍ شاملةٍ قائمة على الذكاء الاصطناعي المسؤول، الذي يُنير ولا يُقصي، يُبدع ولا يُفسد.


واختُتمت الجلسة الافتتاحية بكلمةٍ حملت نغمة الوداع والوعد معًا، ألقاها عبر البثّ المباشر الأستاذ الدكتور عبد الله المجيدل، الأمين العام للمؤتمر، مؤكدًا أنّ هذا الحدث ليس نهاية بل بداية لمسارٍ عربيٍّ متكاملٍ نحو تعليمٍ يُوازن بين المعرفة والقيم، بين العقل والوجدان.


كانت كلماته أشبه بإضاءةٍ على طريقٍ طويلٍ من الأمل، طريقٍ يبدأ من رام الله ويمتدّ إلى كلّ العواصم التي ما زالت تؤمن بأن التعليم هو المعجزة الممكنة.


ولم تكن سيمفونية الافتتاح لتكتمل لولاُ الجهد الاستثنائي الذي بذلته لجان المؤتمر كافة؛ لجانٌ عملت خلف الأضواء كمن ينحت الصخر بصبرٍ عاشقٍ للحقيقة، فكانت نبض التنظيم وروح الانسجام. من لجان الإعلام إلى اللوجستيات، ومن لجان تحضيريّة وتنظيميّة إلى المتابعة العلميّة، تشكّلت جميعها كفريقٍ واحد، يشتغل على قلبٍ واحد، كأن كلّ عضوٍ منهم يُضيء شمعةً إضافية في طريق الرؤية.


وكانت القاعةُ تتزيّن بوجوه الباحثين القادمين من كلّ مدن فلسطين، يحملون في ملامحهم عتبات الأمل كأنها بواباتٌ تُفتح على غدٍ مشرق. نظراتهم كانت تقول ما لم تقله الكلمات: إنّ هذا الوطن، برغم أوجاعه ما يزال قادرًا على أنْ ينجب العقول التي تُصلح العالم وتعيد للمعرفة دفأها وللحلم أجنحته.


وفي ساعات ما بعد الافتتاح، تفتّحت جلسات المؤتمر حقولا من المعرفة، تناقش وتبتكر في محاور امتدت من القيادة الرقمية والحوكمة الذكية، إلى تطبيقات الذكاء الاصطناعي في تعليم ذوي الإعاقة، والأبعاد الأخلاقية للتقنية في التربية، ودور المناهج الرقمية في تعزيز مهارات الإبداع والتفكير النقدي، وصولًا إلى التعليم في الأزمات واستراتيجيات الصمود التربوي في فلسطين.


تنوّعت المشاركات وتلاقت الأفكار، فكانت فلسطين القلب، والعلم شريانها، والإبداع روحها.


وحين أسدل النهارُ ستارَه على يومٍ من الفكر والنبض، أعلنت إدارة المؤتمر توصيات المحطة الأولى، داعيةً إلى تبنّي سياساتٍ تعليميةٍ عربيةٍ حديثةٍ ترتكز على الإبداع الإنساني، وتؤكد على البعد الأخلاقي في توظيف الذكاء الاصطناعي.
ثمّ خُتم اليوم بشكرٍ عميقٍ وجّهته اللجنة المنظمة لكلّ من أسهم في إشعال هذه الشعلة العلمية، مؤكدةً أنّ رام الله لم تكن سوى البداية، وأنّ رحلة الإبداع العربي ستتواصل في عواصم أخرى، حتى تثمر رؤية تربوية موحدة لمستقبل التعليم العربي.


وحين خفَتَت الأضواءُ قليلاً، وبقي الصدى معلّقًا في هواء رام الله كشالٍ من ضوءٍ أخير، بدا أن المدينة نفسها تُنصت لما تبقّى من أنفاس النهار. كان المؤتمر في محطّته الأولى قد ترك أثره على الأرصفة والقلوب؛ أثرًا يشبه خطواتٍ دافئة مرّت على تربة تنبض بالحكمة والأمل.


غادرت الكلمات القاعة، لكنّ روحها لم تغادر المكان؛ ظلّت ترفرف فوق رؤوس العابرين فكرة لا تنام، وحلما يعرف طريقه ولو تعثّر الضوء.
ففلسطين التي تعلّم أولادها كيف ينهضون من بين الشقوق أرادت أنْ تقول: إنّ المعرفة مقاومةٌ أخرى، تبني وتُرمّم وتُجدّد.


وفي الوجوه التي خرجت من الأبواب، كان يمكن قراءة شيءٍ يشبه الوعد: وعدٌ بأنّ ما بدأ هنا لن ينطفئ، وأنّ رؤية الإبداع ستتابع سفرها عبر المدن والجامعات والقلوب، تُشعل سؤالًا في ذهن معلّم، وتفتح نافذةً لدى طالب، وتُنبت في عقل باحثٍ فراشةَ اكتشافٍ جديدة.


لقد كان ذلك اليوم أكثر من جلساتٍ وكلمات؛ كان لحظةً استثنائية يتقاطع فيها العقل بالوجدان، والهوية بالمعرفة، والإنسانُ بظلال قدره.


ومن رام الله، المدينة التي تحفظ ذاكرة الشهداء وابتسامة الأطفال في آنٍ واحد، انطلقت الشرارة الأولى لمسارٍ عربيٍ يليق بمن يؤمن بأنّ التعليم هو أجمل أشكال الحلم وأعمق وجوه الحرية.


وهكذا، تُسدَل الستارة على يومٍ من الضوء، لكنّ الحكاية تبقى مفتوحةً على الغد؛ تكتبها العقول التي آمنت، والقلوب التي أصرّت، والأيادي التي حملت الشعلة.


فما دام في هذا الوطن نهرٌ من إرادة، وفي هذا الإنسان عينٌ تنظر إلى الأفق فإنّ المستقبل سيظلّ مساحةً قابلةً للكتابة، كتابةٍ تبدأ بحرفٍ من رام الله، وتمتدّ إلى حيث لا حدود للأمل.

شاهد أيضاً

أحمد أبو هولي

د. أحمد أبو هولي : بذكرى إعلان الاستقلال نجدد التأكيد على شرعية الرواية الفلسطينية وعدالة حقوق شعبنا

شفا – أكد عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير ورئيس دائرة شؤون اللاجئين د. أحمد أبو …