
واحد وعشرون عاماً ، ولا يزال أبو عمار حالة من النهوض الوطني الراسخة في الذاكرة الفلسطينية ، بقلم : د. وسيم وني
في الحادي عشر من تشرين الثاني/نوفمبر من كل عام، تتوقف فلسطين عند نقطة ألمٍ لا تشبه كل أوجاعها، لحظة غياب رجل لم يكن مجرد رئيس أو قائد أو اسم في سجل التاريخ… بل كان صوت الشعب حين يصمت العالم، وقلب الثورة حين يخاف البعض من نبضها ، واحد وعشرون عاماً على رحيل ياسر عرفات، ولم يستطع الغياب أن ينتزع حضوره من الشوارع، ولا من الأغاني، ولا من الميادين في فلسطين أو في مخيمات الشتات ، ولا من حكايات الأجيال الجديدة التي لم تره، لكنها تؤمن أنه ما زال يطل من خلف غبار المعارك وهو يردد: “على القدس رايحين…”
وللمفارقة المؤلمة، تأتي هذه الذكرى اليوم فيما يعيش شعبنا واحدة من أعنف الحروب في التاريخ الحديث ، حرب إبادة على قطاع غزة منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، راح ضحيتها أكثر من 43,600 شهيد وأكثر من 102,900 مصاب، معظمهم من النساء والأطفال، بينما لا تزال آلاف الجثامين تحت الركام بانتظار أن تصل إليها الأيدي، أمّا الضفة الغربية بما فيها القدس المحتلة، فقد ارتقى فيها أكثر من 780 شهيداً، بينهم أطفال لم يتجاوزوا أعمار المدارس، في مشهد يؤكد أن الاحتلال ما زال يرتكب جرائمه ذاتها التي حاربها أبو عمار طوال حياته.
رحلة رجل حمل فلسطين منذ طفولته
وُلد “محمد ياسر عبد الرؤوف داود سليمان عرفات القدوة الحسيني” عام 1929 في القدس، وهناك بدأ أول اتصال له مع هوية لم يستطع شيء أن يزيحها عن روحه ، انتقل إلى القاهرة للدراسة، واختار الهندسة، لكنه لم يبنِ الأبراج والطرق، بل اختار أن يبني الحركة الوطنية الحديثة، وأن يعيد للقضية عنوانها ومكانها في ضمير العالم.
شارك ضابط احتياط في الجيش المصري للدفاع عن مصر في العدوان الثلاثي عام 1956، ثم ظهر اسمه بقوة داخل الحركة الطلابية الفلسطينية، وأصبح رئيساً لاتحاد طلبة فلسطين، قبل أن يسير باتجاه أكبر: تأسيس حركة “فتح” مع مجموعة من رفاقه ، ولم يكن يدري أنهم بهذه الخطوة سيبدأون التحول الأكبر في تاريخ النضال الفلسطيني.
فتح… والانتقال من الشتات إلى الثورة المنظمة
مع انطلاقة حركة “فتح”، تحولت الفكرة إلى سلاح، وتحولت المقالات إلى معسكرات، وتحول اللاجئون إلى مقاتلين يعرفون طريقهم جيداً: العودة، وفي شباط 1969، أصبح ياسر عرفات رئيساً للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، ومنذ تلك اللحظة انتقلت القضية من صفحات الأخبار إلى طاولات العالم، ومن هوامش السياسة إلى قلب المعادلات الدولية.
1974… يوم دخلت فلسطين الأمم المتحدة بصوت واحد
وقف أبو عمار في الأمم المتحدة ممثلاً لشعب فلسطين، وسمع العالم الجملة التي أرهبت المحتل وأربكت الساسة:
“جئتكم أحمل غصن زيتون بيد، وبندقية ثائر باليد الأخرى… فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي ” ، لم تكن مجرد كلمات… بل كانت إعلاناً أن الثورة الفلسطينية لا تبحث عن حرب من أجل الحرب، بل عن سلام عادل لا ينتزع من شعب حقه في الأرض والحياة والكرامة.
من بيروت… إلى عيون العالم
في صيف 1982، قاد “أبو عمار” معارك الدفاع عن بيروت أمام الغزو الإسرائيلي الهمجي ، صمد 88 يوماً تحت الحصار، وسط الموت والنار والقصف، إلى أن غادر مع مقاتليه باتفاق دولي. سأله الصحفيون: إلى أين بعد بيروت؟ فأجاب ببساطة ثائر يعرف طريقه:
“سأذهب إلى فلسطين.”
كانت بيروت محطة خروج، لكنها لم تكن نهاية الطريق، بل بداية فصل جديد.
تونس… ثم الانتفاضة… ثم العالم كله يسمع
استهدف الاحتلال حياته في غارة حمام الشط عام 1985، ونجا بأعجوبة. ثم جاءت انتفاضة عام 1987، التي قادها الشعب من داخل الوطن، فيما كان هو يواجه العالم سياسياً ويؤسس للدعم الدولي للانتفاضة ، وبعد إعلان الاستقلال في الجزائر عام 1988، وقف أمام الأمم المتحدة مجدداً ليطرح مبادرة سلام فلسطينية جعلت العالم يفتح عينيه، ودفعت الولايات المتحدة لبدء حوار سياسي مع منظمة التحرير.
العودة إلى الوطن… وبدء مسيرة بناء الدولة
في انتخابات 1996، انتُخب ياسر عرفات أول رئيس للسلطة الوطنية الفلسطينية، وعاد إلى غزة والضفة ليبدأ مشروع تحويل النضال إلى مؤسسات ودولة ناشئة ، كان يعلم أن الطريق طويل، وأن الاحتلال لن يترك الشعب الفلسطيني يبني حلمه بسهولة… لكنه مضى ، وفي عام 2000، حين فشلت مفاوضات كامب ديفيد، ورفض المساس بالثوابت والقدس واللاجئين والسيادة، اندلعت انتفاضة الأقصى، وحاصرت دبابات الاحتلال مقر المقاطعة في رام الله، وفرضت عليه حصاراً خانقاً ، غرفة واحدة، ضوء خافت، وقيادة تدير شعباً محاصراً من كل الجهات لكنه لم يستسلم، ولم يرفع راية بيضاء.
الرحيل الذي بقي لغزاً… وظلّ وصية
عام 2004، ساءت صحته بشكل مفاجئ، ونقل إلى فرنسا، إلى مستشفى بيرسي العسكري ، لم ينجح الأطباء في وقف تدهور حالته، واستشهد فجر الخميس 11 تشرين الثاني. وحتى اليوم، لا تزال قضية تسميمه ملفاً مفتوحاً في ذاكرة الشعب.
رحل القائد من سرير المرض، لكن الاحتلال لم ينتصر ، ودفن الجسد في رام الله، بينما بقيت روحه في كل مكان في فلسطين:
في المخيمات، في الانتفاضات، في شعارات الشبان على الجدران، وفي ذاكرة الشهداء الذين كانوا يهتفون باسمه في آخر لحظات حياتهم.
وختاماً واحد وعشرون عاماً مضت، وما زال أبو عمار يسير معنا في كل جنازة شهيد، في كل بيت مهدّم في غزة، في كل أسير يواجه سجّانه بعين لا تنحني، وفي كل طفل يرفع علم فلسطين أعلى من ارتفاع جسده ، لم يكن رحيل ياسر عرفات نهاية فصل، بل كان بداية عهد جديد كتبه الشعب بدمه وصبره وكرامته.
ترك إرثاً لا يمكن طمسه : ثوابت لا تُباع، وكرامة لا تُقايض، وحرية لا تُستجدى، وقرارٌ فلسطيني مستقل لا يخضع للاحتلال ولا لابتزاز العالم.
ولهذا، لم يتوقف الطريق عند غيابه فالمسيرة التي بدأها أبو عمار استمرّت بقيادة خليفته الرئيس محمود عباس، الذي حمل الراية ذاتها، وحفظ الثوابت ذاتها، ودافع عن القرار الوطني المستقل في أصعب المراحل السياسية والدبلوماسية، رافضاً أي مشروع ينتقص من الحق الفلسطيني أو يتجاوز القدس أو يشرعن الاحتلال.
واليوم، بعد واحدٍ وعشرين عاماً، يتأكد أن القائد رحل جسداً…لكنّ الفكرة بقيت، والراية بقيت، والدولة القادمة تحمل توقيع من مضوا… ومن يقاتلون اليوم… ومن سيولدون غداً.
فلسطين لا تنسى رجالها، والشعوب التي تعرف طريقها لا تموت.
- – د. وسيم وني – عضو نقابة الصحفيين الفلسطينيين .
شبكة فلسطين للأنباء – شفا الشبكة الفلسطينية الاخبارية | وكالة شفا | شبكة فلسطين للأنباء شفا | شبكة أنباء فلسطينية مستقلة | من قلب الحدث ننقل لكم الحدث .