10:43 مساءً / 2 نوفمبر، 2025
آخر الاخبار

بلفور… والوعد الذي لم يمت بعد ، بقلم: د. وليد العريض

بلفور… والوعد الذي لم يمت بعد ، بقلم: د. وليد العريض

وبدايتي…


أنّي كلّما أطلّ الثاني من تشرين، خرج من الذاكرة رجلٌ عجوزٌ يحمل مظلته البريطانية وابتسامته الباردة، كأنّ القرن كلّه لم يمضِ. يتجوّل بين نشرات الأخبار وملفّات التطبيع، يمرّ على العواصم المضيئة بالكهرباء والمطفأة بالكرامة، ويضحك. كأنه يقول للعرب من تحت التراب:

“شكراً لأنكم حافظتم على وعدي أكثر مما كنتُ أتمنى!”

في كلّ عام، يمرّ وعد بلفور كما تمرّ النكبات المزمنة: هادئة، مألوفة، لا تُثير دهشةً ولا غضبًا.
وعدٌ وُلِدَ في غرفةٍ باردة من لندن، ثمّ كبر في دفاتر الصمت وتخرّج من جامعات المصالح، حتى صار جزءًا من المقررات الدراسية للعجز. نسيه بعضنا عمدًا وتجاهله بعضنا خوفًا وتبنّاه آخرون على أنه “واقع يجب التعايش معه” وكأنّ فلسطين خطأ مطبعي في جغرافيا الشرق الأوسط.

وقصيدي…
أنّ بلفور لم يعد يحتاج إلى أن يقوم من قبره ليتأكد من نجاح مشروعه؛ فالعالم يقوم بالمهمة نيابة عنه. تغيّرت الوجوه، وبقي الجوهر واحدًا: احتلالٌ يزداد وقاحة، وصمتٌ يزداد أناقة.
ما عاد الوعد وثيقة سياسية، بل صار مزاجًا عامًا يُدهن بخطابات الحكمة والتعقّل.
الذين كانوا يصرخون باسم القدس، باتوا يتحدثون باسم “الاستقرار”،
والذين حملوا مفاتيح العودة، صاروا يعلّقونها في متاحف الذكريات كأدواتٍ تراثية.
حتى صار الذي يتحدث عن فلسطين يبدو كأنه يتحدث عن زمنٍ انقرض، أو حلمٍ أُغلق ملفّه منذ أجيال.
لكنّ غزة…


ذلك الشريط الضيق الذي لا يعرف الاستسلام، ما زال يربك خرائطهم.
غزة التي لا تملك إلّا الكلمة والدمّ، قالتها بصوتٍ واحد:

“هنا انتهى الوعد القديم، وهنا يبدأ معنى الإنسان.”
كلّما حاولوا محوها، كتبت نفسها على الرمل والبحر والحصار.
كلّما أرادوا أن يُطفئوا ضوءها، اشتعلت بأطفالٍ لا يعرفون من الدنيا إلّا الحجارة وأسماء الشهداء.
غزة – الصغيرة في الجغرافيا، الكبيرة في المعنى – لا تردّ على بلفور بالبيانات، بل بالكرامة.
تعيد كتابة التاريخ بمدادٍ لا يجفّ وتعلّم الأرض أن تنبت من الرماد.
لقد وعد بلفور بإسرائيل الأولى،


لكننا – بصمتنا الطويل – منحنا العالم مساحةً لتجريب إسرائيل الثانية والثالثة.
ومع ذلك، ما زال في الذاكرة ما يشبه المعجزة:


أنّ هناك من يقاوم لا لأنه قويّ، بل لأنه لا يعرف معنى الركوع.
أنّ هناك شعبًا لا يملك إلا الإيمان ومع ذلك يُربك جيوشًا لا تؤمن إلا بالقوة.
أنّ في غزة وعدًا مضادًا للوعد القديم، وعدًا لا يُكتب بالحبر بل يُقال بالدم.

وخاتمتي…
أنّ التاريخ لا ينسى، ولو نامت الجغرافيا.
وأنّ وعد بلفور لم يمت، لكنه يُحتضر في كلّ بيتٍ مهدّم وفي كلّ أمٍّ تبحث عن ابنها تحت الركام.
لم يكن الوعد مجرّد وثيقة، بل امتحانًا مفتوحًا للضمير الإنساني
وما زال السؤال نفسه بعد قرنٍ من الخديعة:
من الذي أعطى؟ ومن الذي استحقّ؟
أما الجواب، فيأتي من غزة كل يومٍ بدمٍ جديدٍ يقول للعالم:

إنّ الوعد الذي يستمرّ هو وعد الكرامة
وإنّ الأرض التي يُغسل ترابها بالدم لا تحتاج إلى توقيعٍ من أحد،
لأنها منذ الأزل ممهورةٌ بخاتم السماء.

شاهد أيضاً

مصرع مواطن بحادث سير في رام الله

شفا – لقي مواطن يبلغ من العمر (45 عاماً) من سكان محافظة رام الله ، …