
الثقافة والتراث غير المادي ذاكرة مقاومة في زمن العولمة ، بقلم : سارة محمد الشماس
يشكل التراث غير المادي أحد أهم ركائز الهوية الثقافية والوجدانية للأمم، فهو المرآة التي تعكس تاريخ الشعوب وتجاربها الحياتية، يعبر عن ذاكرة المجتمع ووعيه الجمعي. ومع تسارع العولمة والانفتاح الثقافي الذي يشهده العالم اليوم، بات من الضروري إعادة الاعتبار للتراث بوصفه موردًا ثقافيًا أصيلًا يمكن أن يسهم بفعالية في بناء القيم لدى الأجيال الجديدة. فالتربية لم تعد تقتصر على نقل المعرفة، بل أصبحت معنية بتشكيل الإنسان في أبعاده الفكرية والوجدانية والسلوكية، وهنا يبرز التراث غير المادي كأداة تربوية متجددة.
ويعرف التراث غير المادي، وفق منظمة اليونسكو بأنه “الممارسات والتقاليد وأشكال التعبير والمعارف والمهارات التي تعترف بها المجتمعات باعتبارها جزءًا من تراثها الثقافي”، يشمل العادات والتقاليد، والفنون الشعبية، والحكايات، والأمثال، والحرف، والمعتقدات، والطقوس الاجتماعية. ما يميزه عن التراث المادي هو حيويته وقدرته على التجدد والتكيف مع الظروف المعاصرة، ما يجعله مصدرًا غنيًا للتعلم القيمي والوجداني والسلوكي. ومن خلال هذه الخاصية يصبح التراث غير المادي أداة فعالة لغرس قيم مثل الصدق، والاحترام، والتعاون، والمسؤولية لدى المتعلمين.
وتلعب مناهج الدراسات الاجتماعية دورًا محوريًا في توظيف التراث غير المادي داخل التعليم، فهي تربط بين الإنسان والمجتمع والثقافة والتاريخ، وتمكن المتعلم من فهم ماضيه وتأثيره في حاضر المجتمع. فعندما يتعرف على الحكايات الشعبية، أو الأمثال، أو الممارسات التقليدية، فإنه لا يكتسب المعرفة النظرية فحسب، بل يختبر تجربة حياتية تنمي مهارات التفكير النقدي، وتغرس قيم الانتماء، والعمل الجماعي، والصبر، والاحترام. بهذا يصبح التعليم أكثر فعالية لأنه يعتمد على السياق الثقافي للطالب ويحوله إلى تجربة متكاملة تجمع بين العقل والوجدان.
تؤكد الدراسات التربوية أن غرس القيم لا يتحقق بالمواعظ أو التلقين، بل بالممارسة والتفاعل المباشر. من هنا تبرز أهمية الأنشطة العملية المرتبطة بالتراث، مثل إعادة إنتاج الحرف اليدوية، أو المشاركة في الاحتفالات والمهرجانات المحلية، أو مشاريع التوثيق الميداني للحكايات الشعبية والأمثال. كما يمكن للمعلمين استخدام الأغاني والدبكات الشعبية لتعزيز الانتماء وتعليم القيم بطريقة ممتعة وجاذبة للمتعلمين. هذه التجارب تجعل القيم مترسخة في سلوك الطالب وتصبح جزءًا من خبرته اليومية
علاوة على ذلك يعزز التراث غير المادي التواصل بين الأجيال. فالاستماع لكبار السن والحرفيين والسكان المحليين يتيح للطلاب التعرف على خبرات حياتية وثقافية حقيقية، ويشجع على الحوار والتعلم التفاعلي. كما يساعد التراث على توسيع مدارك المتعلمين حول التعددية الثقافية واحترام الآخرين، إذ يتعلمون أن اختلاف الممارسات والقيم بين المجتمعات يُعتبر مصدرًا للغنى الثقافي وليس سببًا للخلاف.
يمكن توظيف التراث في التعليم بطرق متنوعة، أهمها: التعلم القائم على المشروع، حيث يقوم الطلاب بتوثيق الحرف التقليدية أو الممارسات المحلية؛ الرحلات الميدانية للمتاحف والأسواق والمواقع التراثية؛ دمج الوسائط الرقمية لتصميم محتوى تفاعلي عن التراث؛ استضافة كبار السن والحرفيين لنقل خبراتهم مباشرة للمتعلمين. هذه الأساليب تحول التراث من مادة جامدة إلى تجربة حية تشرك العقل والوجدان، وتعزز من تأثير التعليم على شخصية الطالب.
على الرغم من الجهود المبذولة لدمج التراث غير المادي في التعليم، ما تزال هذه المسألة تواجه جملة من التحديات، من أبرزها الحاجة إلى تعزيز وعي المعلمين بأهمية توظيف التراث في التربية القيمية والثقافية، ومحدودية حضوره في المناهج الدراسية، إلى جانب غياب التدريب المتخصص الذي يمكن المعلمين من استثماره بفاعلية داخل الصفوف الدراسية.
وتبرز هذه التحديات ضرورة إعادة صياغة استراتيجيات التعليم بما يضمن تكامله مع الثقافة المحلية، ويسهم في بناء بيئة تعليمية قادرة على الربط بين الأصالة الوطنية والمعرفة الإنسانية المعاصرة. لتجاوز هذه التحديات يقترح إدراج التراث غير المادي كأهداف واضحة في المناهج التعليمية، وتزويد المعلمين بأدلة وأساليب تربوية عملية، بالإضافة إلى عقد شراكات بين وزارات التربية والتعليم والسياحة والآثار والثقافة ومؤسسات التراث لتبادل الخبرات والموارد. كما يمكن تشجيع المتعلمين على مشاريع ميدانية توثق التراث المحلي، ودمجه في الأنشطة اللاصفية مثل المعارض والمهرجانات، واستثمار التكنولوجيا الحديثة في عرض التراث بطريقة جذابة ومتاحة للجميع.
إن إدماج التراث غير المادي في التعليم لا يحفظ الماضي فحسب، بل يبني شخصية الإنسان الحاضر والمستقبلي. فهو يرسخ الانتماء والهوية، ويغرس القيم الأخلاقية والاجتماعية، ويعزز الوعي بالمسؤولية الفردية والجماعية. بذلك يصبح التراث غير المادي جسراً يربط بين الماضي والمستقبل، ويحول المعرفة إلى تجربة حية تساهم في تكوين الإنسان المتوازن القادر على مواجهة تحديات العصر بوعي وثقة.
شبكة فلسطين للأنباء – شفا الشبكة الفلسطينية الاخبارية | وكالة شفا | شبكة فلسطين للأنباء شفا | شبكة أنباء فلسطينية مستقلة | من قلب الحدث ننقل لكم الحدث .