
فيلم أمريكي طويل ، بقلم : مروان إميل طوباسي
تكشف التطورات الأخيرة في غزة عن مرحلة جديدة من السيطرة الأميركية – الإسرائيلية بعيدا عن أي مفهوم للسلام ، حيث لم تعد الهيمنة تقتصر على الأحتلال العسكري المباشر ، بل تتخذ أشكالاً متعددة تُسوّق على أنها “إعادة إعمار”، بينما تُكرس في الواقع السيطرة الأستيطانية الوجودية في ظل استمرار أشكال من العدوان .
تقرير هآرتس عن مركز التعاون المدني – العسكري في كريات غات يوضح أن واشنطن تعتبر وقف إطلاق النار الهش الذي رعته خطة ترامب المفخخة إنجازا استراتيجياً ، وتسعى إلى تثبيته عبر إدارة إعادة الإعمار في مناطق خاضعة للسيطرة الإسرائيلية الكاملة في قطاع غزة . المركز ليس مجرد هيئة إشرافية على المساعدات ، بل غرفة عمليات للتحكم بما يُسمى “اليوم التالي”، مع إبعاد القيادة الفلسطينية عن أي دور سياسي أو سيادي حقيقي .
كما ان تصريحات نائب الرئيس الأميركي دي فانس بأن أي قوات أجنبية لن تكون على الأرض في إسرائيل دون موافقة إسرائيل ، رغم أن الحديث يدور عن غزة وعن قوات تركية ، تظهر بوضوح أن هناك إصراراً أميركياً على إبقاء السيطرة الإسرائيلية المطلقة ، وتطبيع فكرة أن غزة أرض إسرائيلية ، ونزع الصفة الوطنية الفلسطينية عنها . تصريحات كوشنير حول “غزة الجديدة” تؤكد أن إعادة الإعمار أداة هندسة سياسية ، تهدف إلى إعادة توطين داخلي وتحويل السيطرة العسكرية إلى أحتلال إداري وأستيطاني مُقنّع .
في هذا السياق ، يعكس أعتراف الجنرال الإسرائيلي إسحاق بريك صدمة المؤسسة العسكرية من قدرة حماس على استعادة سيطرتها الميدانية ومؤسساتها المدنية بسرعة فائقة رغم ما تعرضت له من ضربات ، وهو يربط هذه العودة بتفويض سري بين ترامب وأردوغان لإبقاء حماس طرفاً أساسيا في إدارة “اليوم التالي” لغزة . هذا يعيد تثبيت حماس كسلطة امر واقع فعلية ، قادرة على إدارة الحياة العامة والخدمات والنفوذ السياسي ، ويؤكد أن أي مشروع لإقصائها أو فرض وصاية خارجية سيصطدم بالقوة التنظيمية والميدانية التي أعادت فرضها على الأرض .
من جانب آخر وفي مقابلة حديثة مع مجلة تايم الأمريكية امس ، أعاد ترامب التأكيد على ، أنه يحب الرئيس محمود عباس لكنه أشار ، إلى أنه ليس بالضرورة الشخص المناسب لقيادة غزة بعد الحرب ، كما اشار الى اقترابه من اتخاذ قرار بشأن حرية الأسير القائد مروان البرغوثي ، هذا المناضل الوطني الذي بأعتقادي لن يقبل بأي دور في سيناريو الفيلم الأمريكي الطويل . هذه التصريحات تعكس سياقا أمريكيا في رغبتها لإعادة هيكلة السلطة الفلسطينية “المتجددة” تحت ذريعة إصلاحات ادارية وسياسية ، ومكافحة الفساد ، وتهيئة الأرضية لأي إدارة مستقبلية تحت إشراف أمريكي “دولي” ، في محاولة لإعادة توجيه السلطة دون تجاهل الدور الفاعل لحماس ، كما ترغب بذلك الولايات المتحدة في اطار رؤيتها للشرق أوسط الجديد بما يضمن ايضا الإشراف والحضور السياسي الأمريكي بأسرائيل .
النتيجة واضحة اليوم ، فما يُسمى “اليوم التالي” ليس خطوة نحو السلام ، بل تثبيت الأحتلال بغطاء إعادة الإعمار ، وتحويل غزة إلى منطقة إدارة مشتركة أميركية – إسرائيلية ، بينما تُحرم القيادة الفلسطينية من أدوات القرار . الواقع الجديد يبدو انه يفترض أن أي حل سياسي أو إعادة إعمار لا يمكن أن يكتمل دون مشاركة حماس ، بعد ان تاكدوا بأنها لم تعد تشكل خطرا ، الفاعلة والمستقلة في غزة الى جانب السلطة “المتجددة” بالضفة التي يسعون لها .
في مواجهة “الفيلم الامريكي الطويل” أي هذا المسار ، يبقى الوعي الوطني والسياسي شرطاً أساسياً لنا نحن ، وذلك في ضرورة فِهم أهداف الأحتلال ودور الولايات المتحدة بالمنطقة ، تمييز المصالح الوطنية من المشاريع الأجنبية التصفوية ، الإدراك الكامل بأن الشعب هو مصدر السلطات لتجديد الشرعيات الأنتخابية ، ورفض أي حلول تحت وصاية “دولية” أمريكية والتمسك بالقرار الوطني المستقل والقانون الدولي والقرارات الأممية بعيداً عن أي اشتراطات واملاءات ، والإصلاح الوطني الديمقراطي لنظامنا السياسي المُترهل ، هي السبل الوحيدة للحفاظ على حقوق شعبنا الوطنية ، وإعادة صياغة رؤية وخطة فلسطينية لا تحتمل التأجيل بعيدا عن سياسة الترقب والأنتظار وردود الافعال . رؤية تستند الى الإرادة السياسية وجرأة المراجعة والتقييم على قاعدة التوافق الوطني الواسع نحو برنامج وأدوات من اجل الوصول الى سيادة حقيقية وأستقلال وطني كامل يتمثل بالأصرار على إنهاء الأحتلال أولاً .
وذلك في مواجهة “الفيلم الأمريكي الطويل” الذي لا يشكل عنوانا مجازياً فحسب ، بل أيضا اسم فيلم مصري ساخر يتناول فكرة الانبهار بالنموذج الأمريكي وكيف يُعاد إنتاجه في المجتمع المصري بشكل مشوّه ، والذي أنتج عام ١٩٨٨ من بطولة حسين فهمي وميرفيت أمين . يبدو أن واشنطن تُعيد اليوم إنتاج الفيلم ذاته من خلال سرعة تحول المعادلات السياسية والمفاجأت لضمان هيمنتها على المنطقة ، ولكن على مسرح غزة وبما ستحاول متابعته بالضفة الغربية عاجلاً ، حيث تتحول السياسة إلى سيناريو ، والإعمار إلى مشهد ختامي مزيف والأستيطان الى واقع كولنيالي والدولة ذات السيادة الى سراب كما حق تقرير المصير في مشهد صراعنا الوجودي ، ما لم نَكتُب نحن الفلسطينيون روايتنا بأيدينا .
شبكة فلسطين للأنباء – شفا الشبكة الفلسطينية الاخبارية | وكالة شفا | شبكة فلسطين للأنباء شفا | شبكة أنباء فلسطينية مستقلة | من قلب الحدث ننقل لكم الحدث .