
قصيدة المساء .. رحلة وجودية ، بقلم : بلقيس عثامنه
في المنهج السيميائي تعد العتبات مداخل تأويلية توجه القراءة، والعنوان يوظف كعلامة أولى تسبق مسار الدلالة، ويعتبر أولى عتبات تحليل النص وقراءة مضامنيه، إذ يتسلل العنوان في النص ويتجمع النص في العنوان، واختار الشاعر أن يتفق عنوان قصيدته مع آخر كلماتها “المساء” الذي يحمل دلالة الألم والأسى ويمثل النهاية والموت، لكن للقصيدة رأي آخر.
“السحب تركض في الفضاء ركض الخائفين
والشمس تبدو خلفها صفراء عاصبة الجبين
ساجٍ صامت فيه خشــوع الزاهدين
لكنما عيناك باهتتان في الأفق البعيد
سلمى بماذا تفكرين
سلمى بماذا تحلمين”
العلامات الدلالية: ركض الخائفين، صفراء، عاصبة الجبين، البحر ساج، باهتتان، الأفق البعيد.
يتميز شعر إيليا أبو ماضي بأنسنة الطبيعة، وإسقاط الصفات الإنسانية على مظاهر الكون، ما يعكس حالاته الوجدانية ويوظفها في النص الشعري لخدمة المعنى، وفي هذه المقطوعة تظهر الطبيعة خائفة حزينة، فالسحب تركض ركض الخائفين، فيوظف علامتي الركض والخوف، هذا الركض شديد السرعة يرافقه ألم قلبي، واختار الفضاء ليكون مكان الهرب، ليوضح دلالة الركض سريعًا دون توقف أو نهاية إشارة إلى عمق الخوف والتيه والوحدة.
أما الشمس عاصبة الجبين خلف السحب الخائفة الراكضة، نذير بقدوم المساء الحزين فالشمس الصفراء عاصبة الجبين تعني النهاية والمرض لدلالة علامة اللون الأصفر على السقم والداء، ويزداد عجزها بظهورها خلف السحب فلا حول لها، والبحر هادئ صامت دلالة على الحزن العميق واليأس وكأنه في لحظات الموت، وهنا تظهر الصورة العامة للكون من حول الشاعر كون مضطرب خائف ويخالف طبيعته التي اعتادها الإنسان، فكانت إسقاطات الشاعر على الكون خير تجسيد لهذه الحالة التي يمر بها من الداخل.
العلامات الدلالية: ركض الخائفين، صفراء، عاصبة الجبين، البحر ساج.
ولم تتوقف حالة الحزن عند الكون، بل انتقلت إلى عيني سلمى، وبتوظيف علامة البهتان التي وظفها لوصف عينيها تحمل دلالة فقدان الشغف وضياع الأحلام؛ لأن العينين مرآة القلب أما رؤية عينيها في الأفق البعيد فتحمل دلالة بعدها بتعاقب الزمان.
يتميز المقطع بالوصف لموجودات عالم الشاعر من بحر وسحب وسماء وسلمى، دون أن يصف نفسه أو ينقل ما شعر به وعاشه هو في بداية القصيدة، وقام بتوظيف حقول دلالية تحمل معاني الحزن التي تخدم هدفه من البداية، إذ استخدم الصور الحركية والبصرية والصوتية لإقحام القارئ في هذا العالم الذي يراه ويصفه.
” أَرَأَيتِ أَحلامَ الطُفولَةِ تَختَفي خَلفَ التُخوم
أَم أَبصَرَت عَيناكِ أَشباحَ الكُهولَةِ في الغُيوم
أَم خِفتِ أَن يَأتي الدُجى الجاني وَلا تَأتي النُجوم
أَنا لا أَرى ما تَلمَحينَ مِنَ المَشاهِدِ إِنَّما
أَظلالُها في ناظِرَيكِ
تَنِمُّ يا سَلمى عَلَيكِ”
العلامات الدلالية: تختفي، التخوم، أشباح، خفت، الدجى، الجاني، أظلالها.
يبدأ الشاعر المقطع الثاني بشحنة دلالية تسقط بظلالها على النص، فيستهل بسؤال لمحبوبته عن أحلام الطفولة، والتي اختار أن تختفي خلف التخوم وهذا التوظيف للعلامات يحمل دلالات الحزن نتيجة تلاشي الأحلام وابتعادها، فأحلام الطفولة نقية لا تشبه الواقع؛ لطهارتها لكنها عندما يكبر الإنسان تبتعد مختفية خلف حاجز الوعي والواقع فتترك لدى القلب النقي حالة من الألم لعدم تحقيق مبتغاه.
ويتسمر بالتصعيد في أسئلته من خلال توظيف علامات نصية تحمل دلالات الحزن، بالانتقال من الصورة الحركية لأحلام الطفولة المبتعدة يصل إلى سؤال سلمى عن إبصار عينيها لأشباح الكهولة في الغيوم هذه الدلالات التي تعيد القارئ إلى المقطع الأول والسحب الراكضة رعبًا، بالإضافة إلى عيني سلمى الباهتة، إذ يعيد توظيف الصور الحركية بدلالات متدفقة تربط الكون بالحالات الوجدانية، فتوظيف الدوال: الأشباح والكهولة تشير إلى الخوف من انقضاء العمر في التيه وصولا إلى حالة العجز المرتبطة بالكهولة، إذ ترافق رؤية الغيوم مشاهدة أشباح الكهولة في إشارة إلى الخوف من انقضاء العمر.
في مقابلة لفظية ودلالية بين: طفولة / كهولة، أحلام / أشباح، تختفي خلف التخوم / في الغيوم، يظهر الشاعر حالة التيه بين الحزن على أحلام الطفولة، والخوف من الكهولة ومتاعبها، وكأن العمر يمر سريعًا دون أن يشعر الإنسان وهو في حالة مراقبة وانتظار، إن هذا التوظيف لصورتين تحمل كل منهما دلالة نفسية عميقة مقابلة للأخرى يعكس القلق الوجودي وحالة الترقب التي يؤول معها الإنسان إلى الموت، والتي تضيء عليها القصيدة في بنائها الدلالي وتوظيفها النصي.
وينتقل السؤال إلى زخم دلالي جديد يحمل مجموعة علامات، وهي: خفت، الدجى، الجاني، النجوم، لتكون علامة النجوم بدلالاتها على الحياة والتجديد والبوصلة فالنجوم تشير للطريق وتعين التائه إذ هي الأمل، جاءت مقابلة لعلامة الدجى الذي يحمل دلالة الألم والحزن والصمت، وازدادت كثافة دلالة الدجى عند وصفه بالجاني، فهو ليل قاصٍ مر، وهذا سؤاله الذي يطرح على سلمى هل تخشى لحظات الألم إن لم يصحبها الأمل؟
يبدأ الآن بالإجابة على هذه التساؤلات التي طرحها، فهو ينقل المحمولات الدلالية للعلامات التي وظفها في قصيدته، إلى هذه النقطة، على أنها وصف لما تعيشه سلمى من حالة حزن عميق يمكنه قراءتها من عينيها، ما يحمل دلالة على عمقه وقدرته على سبر روحها ومعرفة ما تعيشه من عينيها، وهذا يحمل دلالة الحب الصادق والمعرفة الدقيقة.
إن التوظيف العلاماتي يحمل دلالات الحزن والحيرة إذ تتقابل كل صورة مع الأخرى في القصيدة، ويتم توظيف عناصر الصوت والحركة لخدمة الفكرة العامة التي تحملها العلامات، ويرتبط النص ببعضه بخيوط من الصور الحركية والخيالات التي تبدأ غامضة ثم يتم تفسير طيوفها بذكاء، يزيد من تواشج النص وتماسك بنائه.
” إِنّي أَراكِ كَسائِحٍ فيم القَفرِ ضَلَّ عَنِ الطَريق
يَرجو صَديقاً في الفَلاةِ وَأَينَ في القَفرِ صَديق
يَهوى البُروقَ وَضَوأَها وَيَخافُ تَخدَعُهُ البُروق
بَل أَنتِ أَعظَمُ حيرَةً مِن فارِسٍ تَحتَ القَتام
لا يَستَطيعُ الاِنتِصار
وَلا يَطيقُ الاِنكِسار”
العلامات الدلالية: سائح، القفر، ضل، يرجو، حيرة، القتام، لا يستيطع، لا يطيق الانكسار.
تحمل المقطوعة الشعرية جرعة دلالية تبرز عمقًا في أداء المعنى وتوظيف الدوال، فيبدأ في خطاب محبوبته “إني أراك كسائح فيم القفر ضلَّ عن الطريق” فاستخدام علامات: السائح، القفر، ضلَّ الطريق، تحمل دلالة ضياع الطريق، وارتباك الخطى، وهذه الحالة التي أسقطها على سلمى تظهر حالة من الشتات، فالصحراء فضاء مكاني لا حدود له ولا يمكن إلا لابنها البار أن يتمكن من قطعها دون ضياع، وسلمى هنا سائحة في الصحراء لا يمكنها معرفة الطريق، ويحمل هذا الكلام دلالة عميقة تفضي إلى قراءة ما خلف الكلمات، الضياع وعدم معرفة الوجهة في الحياة، وفقدان القدرة على تميز الطريق، “يرجو صديقًا في الفلاة وأين في القفر صديق” السطر الشعري محمل بمجموعة من الدلالات، فالطريق دائمًا يقطعه الإنسان وحده، والصحراء والصديق هنا إسقاطات على رحلة الحياة، والوحدة وفقدان الصديق الذي يصدقه القول ويوجه خطاه بخبرته ومعرفته لأسرار الحياة.
“يهوى البروق وضَوأها ويخاف تخدعه البروق” تتمركز الدلالة في هذا السطر الشعري حول علامة البرق ومقاصدها، فالبرق لمعان خاطف سريع يظهر ويختفي، وهو مرتبط بالشتاء، يظهر دون أن يرافقه المطر، في إشارة إلى الخداع، الأمل يظهر ويذهب سريعًا، دون أن يأتي بتغيير أو حياة، أما المطر رمز للحياة، وهذا يقابل معنى الصحراء التي تصورها المقطوعة، فالبرق لمعان خادع، وأمل كاذب لا تغيير بعده، وتوظيف علامتي يخاف وتخدعه، تحمل دلالة القلق وعدم اليقين، أي الشك في الأمل الخادع، وعدم الانقياد إليه، فالصورة البصرية هنا سريعة خاطفة وشاحبة دون أمل.
ويؤكد دلالة العلامات التي وظفها في المقطوعة، سابقًا، في قوله “بل أنت أعظم حيرة من فارس تحت القتام” وعند الوقوف عند الدوال، يمكن الوصول إلى الدلالة، فالفارس هو المقاتل الشجاع في المعركة، أما القتام فهو الغبار الشديد الذي يجعل الرؤية صعبة وغير واضحة، وبالتالي يفقد الفارس جزءًا من سيطرته في المعكرة فـ “لا يستطيع الانتصار/ ولا يطيق الانكسار”، استخدام علامة الانكسار يحمل دلالة الخضوع والذل، في مقابل الانتصار الذي يشير إلى الشموخ ويرمز للقوة، وهذه الثنائية تشير إلى حالة الحيرة، فعند إسقاط الصورة على سلمى تظهر حالة الحيرة والتشويش التي تعيش فيها، فهي عاجزة أمام ضبابية الحياة، وعدم وضوحها، ولا يمكنها لا الرضوخ والهزيمة ولا الانتصار.
شحن الشاعر مقطوعته بمجموعة من العلامات الدلالية التي تغوص في معاني الحيرة والضياع، إذ تتضافر العلامات في المقطوعة مشكلةً حقلًا دلاليًا مرتكزه الضياع الإنساني في مواجهة الغموض الكوني، إذ تتحول الصحراء إلى مرآة للنفس، والبرق إلى حلم من سراب، والقتام إلى ضباب الوعي ذاته، فعكس حالة الصراع والقلق الوجودي الذي يعيشه الإنسان موظفًا علاقته مع الطبيعة.
“هَذي الهَواجِسُ لَم تَكُن مَرسومَةً في مُقلَتَيكِ
فَلَقَد رَأَيتُكِ في الضُحى وَرَأَيتُهُ في وَجنَتَيكِ
لَكِن وَجَدتُكِ في المَساءِ وَضَعتِ رَأسَكِ في يَدَيكِ
وَجَلَستِ في عَينَيكِ أَلغازٌ وَفي النَفسِ اِكتِئاب
مِثلُ اِكتِئابِ العاشِقين
سَلمى بِماذا تُفَكِّرين”
العلامات الدلالية: الهواجس، الضحى، في المساء، ألغاز، اكتئاب، تفكير.
ينقل الشاعر في هذه المقطوعة صورة بصرية لسلمى، تمثل واصفًا لقلقها الوجودي من خلال توظيف لغة الجسد والأوقات بالإضافة إلى سبر أغوار نفسها، وهذه المنظومة تحمل دلالة معرفته العميقة بسلمى وقدرته على قراءة ما خلف الصمت، وما على العينين من حيرة.
يبدأ المقطوعة بالإجابة عن حالة القلق الوجودي والضياع التي رآها في سلمى، في المقطوعة السابقة، ويصف الحالة بعلامة الهواجس، وهي الأحلام غير الحقيقي والتهيؤات التي يخيلها العقل لصاحبه، في إشارة دلالية عميقة إلى أن ما تعيشه سلمى من ضياع وحزن وخوف وارتباك هو من هواجسها، فهذا كله لم يكن في عينيها.
ويأتي التوظيف الزمني لعلامة الضحى فترة البواكير من الصباح والتي تحمل التجديد والوضوح والصفاء بين معانيها، ولكن في حالة القصيدة تعني حالة سلمى في الطفولة أو قبل مرحلة النضج التي وصلتها، والقرينة الدالة “أحلام الطفولة” التي أنف ذكرها في القصيدة بالإضافة إلى الوجنتين التي رأى بهما الضحى دلالة على الإشراق والإقبال على الحياة والصغر السن، فالضحى وقت البدايات الجديدة، ما يحمّل الزمن في كلمة الضحى لدلالتين: وقت الأحلام الباكرة ورؤية العالم بوضوح، ودلالة مرحلة نضج أقل، تحمل صفاء نظر خادع.
بعد توظيف علامة الضحى وتحميلها العديد من الدلالات، ينتقل إلى توظيف علامة المساء، في قوله “لكن وجدتك في المساء وضعت رأسك في يديك” إذ يحمل الدال مجموعة من الدوال فالمساء وقت النهاية والعتمة، وقت الألم والفقد والحزن، إذ تتجمع الأحزان وتعتصر لتبدأ في قتل الضحى، ويدل المساء على التقدم في العمر، وهي الآن تضع رأسها في يديها، لم يصف شكل وجنتيها، وإنما هذه الصورة الجسدية تحمل دلالة اليأس والحيرة، والقرينة الدالة “وضعت رأسك في يديك” فلا يوجد ما يمكنها أن تفعله، بل انتقل إلى أعماقها واصفًا الداخل العاجز الذي تبوح به العينين “وجلست في عينيك ألغاز وفي النفس اكتئاب/ مثل اكتئاب العاشقين” فكان الانتقال من صورة مظهرها الخارجي الذي يبث الحياة من وجنتيها في الضحى إلى ألغاز في عينيها وقت المساء، واكتئاب يتملك نفسها، هذا اكتئاب العاشق الذي فقد شغفه.
تحمل الأسطر الشعرية السابقة أبعادًا متعددة، ومقابلة في دلالة مقتبل العمر مقابل التقدم فيه، الضحى مقابل المساء، ويظهر التوافق بين المظهر الخارجي وتداعيات النفس، كل هذا التوظيف يحمل دلالة الوعي الذي يحدث مع تقدم العمر والتجارب، ويقدم صورة إلى بعد فلسفي نفسي، إنه لعنة الوعي الذي يحقق قلقًا وجوديًا، فتموت الأحلام وينطفئ بريق البدايات مقابل التجارب والحقيقة، فيصبح الإنسان شريدًا لا حول له، “سلمى بماذا تفكرين؟” حتى معرفة الشاعر لسلمى على عمقها تبدو هنا سطحية لأنه لا يستطيع الوصول إلى أفكارها، لذا يطرح السؤال، فالحياة قائمة على السؤال، ولا إجابات واضحة تجسد ما يفكر به الإنسان أو الحقيقة التي يراها، بهذا، تتحول القصيدة من وصف لامرأة إلى مرآة للإنسان في مواجهته مع وعيه، حيث يقتل الإدراك الأحلام، وتبقى الأسئلة دون إجابة واضحة، كما تبقى سلمى رمزًا لوعي متسائل.
“بِالأَرضِ كَيفَ هَوَت عُروشُ النورِ عَن هَضَباتِها
أَم بِالمُروجِ الخُضرِ سادَ الصَمتُ في جَنَباتِها
أَم بِالعَصافيرِ الَّتي تَعدو إِلى وَكَناتِها
أَم بِالمَسا إِنَّ المَسا يَخفي المَدائِنَ كَالقُرى
وَالكوخُ كَالقَصرِ المَكين
وَالشَوكُ مِثلُ الياسَمين”
العلامات الدلالية: هوت، عروش النور، هضباتها، ساد الصمت، المسا، يخفي المدائن، الشوك، الياسمين.
تتميز القصيدة بتقديم أفكار مترابطة في كل مقطوع وبربط الدلالات بين المقاطع لتكون القصيدة تشظٍ وحلقة من حقيقة وضياع، بعد ترك السؤال مفتوحًا عن أفكار سلمى، يعد الشاعر التساؤل هذه المرة “بِالأَرضِ كَيفَ هَوَت عُروشُ النورِ عَن هَضَباتِها” يحتوي السطر الشعري على عدد من العلامات التي تحمل الدلالة: فهوت تدل على السقوط السريع دون انتباه، أما العروش بترمز إلى القوة والشجاعة والسلطة، والنور يرمز إلى الحقيقة والعدل وصفاء الرؤيا، والهضبة مكان مرتفع واضح، والسقوط من الهضبة يعني أضرارًا، هذه الدوال عند اجتماعها في الصورة الشعرية تحمل دلالة فقدان الخير والحقيقة، أي أن النظرة متشائمة للحياة على الأرض فلا سلطة للنور والحقيقة على هذه الأرض، ليحمل السطر الشعري دلالة المقابل للنور ألا وهو الظلام.
“أم بالمروج الخضر ساد الصمت في جنباتها/ أم بالعصافير التي تعدو إلى وكناتها” توظف الأسطر الشعرية الدلالة في السطر الشعري السابق، وتسقطها على موجودات الكون والطبيعة، فعند غياب النور وانتشار الظلام في مقابله ساد الصمت في جنبات المروج الخضر، والدلالة اللونية ترمز إلى الحياة والعطاء، لكن قرنها بالصمت يوحي بحالة السكون والموت فلا حياة في هذه المروج الخضراء، وتوظيف الدال العصافير التي تنذر باللبدايات الجديدة والصباح، وترمز إلى ألحان الحياة والإيذان بيوم جديد وبداية جديدة، هنا تظهر بصورة مختلفة والقرينة الدالة “تعدو إلى وكناتها” فقد وصف حركتها بالعدو وهو ما لا يتناسب وطبيعتها، وكأن كل ما يحدث لا يتناسب مع طبيعة الكون، وما ألفه الإنسان من هذه الموجودات، فالعصافير التي تنذر بالبداية تعدو إلى بيوتها لتختبئ.
“أم بالمسا إن المسا يخفي المدائن كالقرى” يعود الشاعر لتوظيف علامة المسا التي تمثل خيطًا يجمع شتات القصيدة، وقلقها الوجودي، ويحمل هذا السطر الشعري بعدًا آخر في القراءة الدلالية فعند شعور الإنسان بالحزن والألم لا فرق لديه بين القرية والمدينة، وكل واحدة منهما علامة دالة فالمدينة رمز التقدم والتطور ورمز المادة والتجديد لبلوغها، أما القرى فرمز للعادات الثابتة، والارتباط بالهوية ورمز للسمو الروحي، وهنا تأتي المقابلة فعندما يفقد الإنسان قدرته على الأمل يفقد الكثير من نفسه حتى لا يستطيع التفريق بين هذين الضدين حتى الشوك يكون كالياسمين!
تختتم المقطوعة بإحساس وجداني عميق بالحزن والاضطراب، إذ يختلط الظلام بالضوء، والصمت بالحياة، والشوك بالياسمين، لتترك القارئ أمام شعور بالغربة والضياع، فهذا التوتر بين الصور الطبيعية والمقابلات الدلالية يعكس الحالة النفسية للشاعر ويأسه أمام فقدان الأمل رغم إدراكه له، ويجعل المقطوعة تجربة وجدانية مؤثرة تتنقل بين التأمل والأسى.
“لا فَرقَ عِندَ اللَيلِ بَينَ النَهرِ وَالمُستَنقَعِ
يَخفي اِبتِساماتِ الطَروبِ كَأَدمُعِ المُتَوَجِّعِ
إِنَّ الجَمالَ يَغيبُ مِثلُ القُبحِ تَحتَ البُرقُعِ
لَكِن لِماذا تَجزَعينَ عَلى النَهارِ وَلِلدُجى
أَحلامُهُ وَرَغائِبُه
وَسَمائُهُ وَكَواكِبُه”
العلامات الدلالية: الليل، النهر، المستنقع، يخفي، ابتسامات، أدمع، الجمال، القبح، البرقع، النهار، الدجى، أحلام، سماء، كواكب.
تحتوي المقطوعة على عمق دلالي، وتوظيف لعدد من الصور المتقابلة وذلك لترسيخ المعنى الذي يرغب الشاعر في إيصاله للقارئ من خلال قصيدته، إذ تضح معاني القصيدة كلما انتقل القارئ إلى بعد أعمق بين أجزائها.
“لا فرق عند الليل بين النهر والمستنقع” يوظف علامة الليل التي تحمل ذات معاني المساء الذي سبق وأن أشار إليه مرارًا، فكلاهما من ذات الحقل الدلالي، أما علامة النهر فترمز إلى النقاء والعطاء والحياة فماء النهر عذب متجدد، في مقابل علامة المستنقع الذي يرمز إلى الماء العادم ويشير إلى الركود، هذا التقابل يعطي دلالة أعمق في نفس الشاعر، من خلال توظيف الطبيعة وإسقاط ما في نفسه عليها، فالليل رمز الظلم، والظلام لا يعنيه الفرق بين النهر والمستنقع، أي بين النفس الطاهرة النقية وبين النفس المدنسة، فهذه الحياة ظالمة ولا تميز ما هو واضح بالنظر، وهذا يحمل دلالة الحزن والظلم الذي يعيشه الإنسان.
كما يرى في الليل أنه “يخفي ابتسامات الطروب كأدمع المتوجع” في هذا السطر الشعري تحمل علامة الليل دلالة الإخفاء والستر، أي في ظلام الليل لا تميز بين ابتسامات الطروب وأدمع المتوجع، فلا يمكن لأحد أن يرى ما يجول في ذهن الآخر وما الحالة التي يعيشها، وذلك لفقدان الإنسان قيمته وغياب القيمة الوجدانية، “إن الجمال يغيب مثل القبح تحت البرقع” يمثل المقطع قرينة دالة على معنى الليل المقصود، فالليل هنا يخفي كل ما يمتلكه الإنسان بداخله، يفقد الإنسان الأهمية وكأنه غير مرئي.
“لكن لماذا تجرعين على النهار وللدجى/ أحلامه ورغائبه/ وسائمه وكواكبه” يستخدم الشاعر المقابلة بين الدجى والنهار، وكلاهما علامة، فالدجى من حقل المساء الدلالي وله ذات المعنى، أما علامة النهار فتحمل دلالة الضحى السابقة، فترمز إلى النور والبدايات والحياة، وهذه المقابلة بين الليل والنهار تمتد إلى الأسطر التالية: فلليل أحلام ورغائب، أي يحمل الدجى أيضًا أهدافًا كما النور، وللدجى سماء وكواكب، فهذا الليل له أفق وفيه بريق، يربط الدلالة ببداية القصيدة “تركض في الفضاء، وعيناك أشباح كهولة في الغيوم” والقرينة “سمائه وكواكبه” وهذا يعني أن الليل يحمل دلالات الحزن والألم في مقابل الأمل والسعادة.
ينتقل الشاعر لتقديم صورة جديدة لموجودات الكون، وتوظيف الطبيعة بطريقة تخدم الحيرة التي يعيشها وحالة التساؤل والتشظي التي تظهر مع مواصلة القراءة، وفي نهاية الليل والدجى، يدرك الإنسان أن الظلام لا يمحو فقط الظاهر، بل يكشف أعماق النفس، أحلامها ورغائبها، فرحها وألمها، فالليل بما فيه من غموض وسكون هو مساحة للتأمل، لاستشعار الحزن والفرح معًا، ولإدراك أن كل كائن، كل شعور، وكل رغبة، مهما أخفاها الظلام، لها مكان في سماء النفس وكواكبها، كما للنهار نوره وبداياته، وهكذا، يظل القلب متيقظًا بين الظلال والنور، بين الدجى والنهار، لا فرق عنده بين النهر والمستنقع، سوى ما يزرعه في ذاته من صفاء أو ركود.
“إِن كانَ قَد سَتَرَ البلادَ سُهولَها وَوُعورَها
لَم يَسلُبِ الزَهرَ الأَريجُ وَلا المِياهُ خَريرُها
كَلّا وَلا مَنَعَ النَسائِمَ في الفَضاءِ مَسيرُها
ما زالَ في الوَرَقِ الحَفيفُ وَفي الصَبا أَنفاسُها
وَالعَندَليبُ صُداحوهُ
لا ظُفرُهُ وَجَناحُهُ”
العلامات الدلالية: ستر، سهولها، وعورها، لم يسلب، الأريج، الخرير، ولا منع النسائم، ما زال في الورق الحفيف، الصبا، العندليب، صداحوه.
يستعمل الشاعر مقابلة بين ما سلبه الليل من الموجودات، وما أبقاه، فقد وظف الدال ستر ليشير إلى دلالة أن لليل سلبياته، لكنه، أيضًا، يحمل إيجابيات فهو “لم يلسب الزهر الأريج ولا المياه خريرها” ويظهر هنا أن علامة الزهر تحمل دلالة الرقة والحياة والرائحة الزكية، وفي عمقها تحمل دلالة النفس الطيبة الحالمة الرقيقة، وعلامة المياه تدل على الحياة وتوظيف الصورة الصوتية “خريرها” والتي تحمل صورة حركية، في إشارة إلى النفس الحالمة والمتجددة المتكيفة مع ظروفها والتي تبعث الحياة في الآخرين، فالليل لم يقمع هذه الأرواح العطرة والنفوس الحالمة، وإن خيم عليها.
“كلا ولا منع النسائم في الفضاء مسيرها” وعلامة النسائم ترمز للتجديد والانتشار والرقة، فالأفكار الرقيقة لا يمكن الحد من انتشارها، وفضاء مسيرها مفتوح أمامها، ويظهر أن علامة الفضاء انتقلت من دلالتها على فقدان الأمل والشعور باليأس إلى دلالة الأمل والسعي والمحاولة فالفضاء رحب ويتسع، وهذا الانتقال يمثل رحلة فكرية عميقة عصفت بالشاعر، ومرحلة من الوعي والتناقضات، حتى في توظيف الطبيعة التي وظفها بعدد من الدلالات المتقابلة، فالليل هنا يحمل دلالتين متقابلتين، هو ظلام وحزن وألم، لكنه لا يقمع الأرواح الحالمة والأيادي الخضراء، إذ يمكن للجميع أن يسعى حتى في الظلام، فـ “ما زال في الورق الحفيف وفي الصبا أنفاسها”.
“فَاِصغَي إِلى صَوتِ الجَداوِلِ جارِياتٍ في السُفوح
وَاِستَنشِقي الأَزهارَ في الجَنّاتِ ما دامَت تَفوح
وَتَمَتَّعي بِالشُهبِ في الأَفلاكِ ما دامَت تَلوح
مِن قَبلُ أَن يَأتي زَمانٌ كَالضَبابِ أَوِ الدُخان
لا تُبصِرينَ بِهِ الغَدير
وَلا يَلَذُّ لَكِ الحَرير”
العلامات الدلالية: اصغي، الجداول جاريات، استنشقي، الجنات، تمتعي بالشهب، تلوح، الضباب، الدخان، لا يلذ، الحرير.
يبدأ الشاعر خطابه سلمى طالبًا منها الإصغاء، واستخدام هذا الدال الذي يحمل معنى الاستماع بانتباه وتركيز، ويمكن أن تفسر في القصيدة على معنى الاهتمام والتركيز لفهم ما وراء الصوت ودلالاته، وقرن الاصغاء بـ “صوت الجداول جاريات في السفوح” والدال الجداول من حقل الماء الدلالي لذا يحتمل معنى التجديد والاندفاع لأنه جارٍ من السفوح، وهذا يوحي بدلالة التجديد والحياة القادمة من أعماق الروح مندفعة، لذا على الإنسان أن يصغي لأفكاره ويمنحها اهتمامه، ويظهر أن إسقاطات الشاعر النفسية على الطبيعة بدأت تأخذ صورة جديدة، فالصور الصوتية والحركية تظهر مظهر التفاؤل.
“واستنشقي الأزهار في الجنات ما دامت تفوح” توظيف الدال “ما دامت تفوح” يحمل دلالة الإيجابية والنظر إلى الواقع بصورة مختلفة، فالأزهار لها رائحة زكية لم يغيبها الظلام، وهذا يشير إلى وجودها رغم الوضع الراهن، وهذا إسقاط من الشاعر يشير إلى الحالة النفسية، وتجنب السلبية في رؤية الواقع، “وتمتعي بالشهب في الأفلاك ما دامت تلوح” رغم أن هذه الأفلاك وظفها في بداية القصيدة كعلامات دالة على الحزن وفقدان الأمل “السحب تركض في الفضاء ركض الخائفين/ أحلام الطفولة تختفي خلف النجوم/ أشباح الكهولة في الغيوم” صور الحزن مقابل النظرة الإيجابية، ما يمثل قرينة دالة على أن عناصر الطبيعة في القصيدة تعكس الحالة الوجدانية، إذ أصبح الفضاء بشُهُبه متعة للناظر، والدال الشهب هو الضوء الصادر في السماء ويظهر ليلًا، ويدل في القصيدة على الأمل الذي يلوح في أفق الحزن.
ينقل الشاعر رسالة مفادها الاستمتاع في الحياة، وعدم تحميلها أكثر مما تستحق “من قبل أن يأتي زمان كالضباب أو الدخان/ لا تبصرين به الغدير/ ولا يلذ لك الحرير” واستخدام العلامتين الضباب والدخان يدل على عدم وضوح الرؤيا وعدم معرفة الوجهة، وبالتالي يكون كل شيء غير واضح فلا يمكن للإنسان أن “يستلذ” بما يملك، وهذا يدل على أن الحياة لذة ومتعة على الإنسان أن يأخذ منها الرحيق قبل فوات الأوان، رغم الحزن والألم.
يحمل المقطع رسالة التخفف من الثقل الوجودي، والتصالح مع النفس والكون بموجوداته، ويدعو لإدراك جمالية اللحظة دون سطحية أو إغراق في الحزن والألم، ويظهر في المقطع استخدام أفعال الأمر في خطاب سلمى، وذلك لإعادة توجيهها إلى الإصغاء والتعلم عن طريق الإصغاء والمراقبة لمقاومة الحزن.
“لِتَكُن حَياتُكِ كُلُّها أَمَلاً جَميلاً طَيِّبا
وَلتَملَأ الأَحلامُ نَفسَكِ في الكُهولَةِ وَالصِبا
مِثلُ الكَواكِبِ في السَماءِ وَكَالأَزاهِرِ في الرُبى
لِيَكُن بِأَمرِ الحُبِّ قَلبُكِ عالَماً في ذاتِهِ
أَزهارُهُ لا تَذبُلُ
وَنُجومُهُ لا تَأفُلُ”
العلامات الدلالية: أمل، جميل، طيب، لتملأ الأحلام نفسك، ليكن بأمر الحب قلبك، أزهاره، لا تذبل، نجومه، لا تأفل.
يواصل المقطع مسار التحول الوجداني الذي بدأه سابقًا بالتخفف من الثقل الوجودي، منتقلاً من الإصغاء للطبيعة إلى بناء عالم داخلي قوامه الحب والأمل، بتقديم النصح لسلمى “لتكن حياتك كلها أملا جميلا طيبا” العلامات التي استخدمها: الأمل، جميل، طيب، تحمل دلالة السعادة والطمأنينة والسكينة، وهذه رسالة واضحة بأن تعيش على أمل، في مقابل الرؤيا التشاؤمية التي بدأت فيها القصيدة، فالحياة قصيرة، وعلى الإنسان أن يحسن التعامل مع عناصر الطبيعة ونفسه لتمتلئ روحه طيبًا وأملًا لا أن تثقل روحه بالحزن.
“ولتملأ الأحلام نفسك في الكهولة والصبا” توظيف الدال الأحلام مع الدالين الكهولة والصبا، في مقابلة لصورة “أحلام الطفولة تختفي” و “أشباح الكهولة” دعوة صريحة للنظر بعين الأمل، وعدم اليأس فلا تعرف الأحلام عمرًا وإن بددت الحياة حلمًا على النفس أن تغرس آخر “مثل الكواكب في السماء وكالأزهار في الربى” فالظرة العميقة للكون والتبصر فيه، بعين الأحلام، تعطي صورة مغايرة لتلك التشاؤمية المثقلة بالحزن، فالأزهار تعود من جديد وتزين الربا، والكواكب في رحم السماء القاتمة تتلألأ مشيرة لوجود الأمل، وهذا بعد فلسفي يقدمه الشاعر من خلال نظرتين للكون، وكيف يكون الكون ثقيلًا أو خفيفًا، إيجابيًا أو سلبيًا بناءً على روح الناظر وما يريد، دعوة للسعي لتعديل النظرة.
“ليكن بأمر الحب قلبكِ عالما في ذاته” يواصل مخاطبة سلمى طالبًا أن يكتفي قلبها بذاته باستخدام علامة الحب وهي أقوى العلامات دلالة، بطلب واضح لا تأويلات له، فالحب سر اتساع القلب واكتفائه بذاته، والحب مصدر الأمل وشعلة الحياة وماء السعي، أما القلب نتيجة للحب “أزهاره لا تذبل ونجومه لا تأفل” وهذه حقيقة الوجود، فهذه النجوم لن تأفل إذا كان الحب شعلة الحياة رغم الليل بكل محمولاته الدلالية والوجدانية.
يواصل الدعوة للتخفف من أحزان الحياة، وأثقال الروح، ويجمع الشظايا “بأمر الحب” ليمتلئ الكون سعادة، وعلامة الحب تدل على حب الذات، وحب الأحلام والكون على اتساعه، فيتسع بأمر الحب المدى لكل شيء، فيؤسس الشاعر لفلسفته للحياة التي ترى أن الحب والأمل جوهر الوجود، وأن الجمال الداخلي طريق لتخفيف أثر الحزن والعبور إلى النور.
“ماتَ النَهارُ اِبنُ الصَبحِ فَلا تَقولي كيفَ مات
إِنَ التَأَمُّلَ في الحَياةِ يَزيدُ أَوجاعَ الحَياة
فَدَعي الكَآبَةَ وَالأَسى وَاِستَرجِعي مَرَحَ الفَتاة
قَد كانَ وَجهُكِ في الضُحى مِثلَ الضُحى مُتَهَلِّلا
فيهِ البَشاشَةُ وَالبَهاءُ
لِيَكُن كَذَلِكَ في المَساء”
العلامات الدلالية: مات، النهار، الصبح، التأمل، أوجاع الحياة، الكآبة، الأسى، مرح، الضحى، متهللًا، البشاشة، البهاء، المساء.
القارئ لهذه المقطع الأخير يجد العلامات الدلالية تنتمي إلى حقول دلالية متضادة: الموت والحياة، الأسى والبهاء، المساء والصباح، فيجتمع كل شتات القصيدة ملخصًا رؤيته الفلسفية في الحياة، “إن التأمل في الحياة يزيد أوجاع الحياة” فتوظيف دلالة التأمل في مقابل دلالة الأوجاع فالتفكير المفرط يؤلم الروح لذا نتيجة التأمل والألم “دعي الكآبة والأسى واسترجعي مرح الفتاة” وهنا تظهر قدرة الإنسان على التكيف والتقبل وإقناع النفس بالجانب الإيجابي، فالبعد النفسي مهم جدًا في قدرة الإنسان على التكيف والاستمتاع.
“قد كان وجهك في الضحى مثل الضحى متهللا” يواصل خطابه لسلمى التي رافقته طوال رحلة القصيدة ورأى من خلالها الوجود، وقدّم لها سر الوجود، وسبقت الإشارة لدلالة الضحى على البداية والتفاؤل، وبالتالي كانت متفائله في بواكيرها ويدعوها إلى البقاء على “فيه البشاشة والبهاء ليكن كذلك في المساء” وهذه دعوة للتفاؤل رغم المساء، في دلالة على أن يكون الأمل رفيق للعمر بكل تقلبات الحياة وألمها وحزنها، على الإنسان أن يكون متفائلًا متبصرًا في الوجود، وعارفًا للغزه.
بعد القراءة السيميائية للقصيدة ومقاربة التضاد والمقابلات والصور فيها، واستنباط رسالة القصيدة، يتبين أن الدال سلمى يحمل دلالة السلامة، وهو تجسيد لروح الشاعر، الذات المتخيلة التي يبحث عن إصلاحها، التي كانت سليمة في ضحى العمر وكدّرها العيش، وضاقت بها الأرض، فأسقطت الألم الروحي على الطبيعة، ولكن بعد رحلة وجودية عميقة وصل إلى أن الحياة متقلبة بين إشراقة ضحى ومساء مظلم، لذا على الروح أن تخاف على ضحاها، فسلمى صورة نقية لذاته الأولى قبل أن ثقل بالتجارب.
يجسد الدال المساء دلالة فلسفية في القصيدة فينتقل بين الألم والفقد والكآبة ثم إلى الإصرار على التفاؤل والأمل رغم الصعاب، وهذا ينقل تجربة الشاعر النفسية ورحلة روحه التي يخاطب في النص، رغبة منه في التخفف من هذا الثقل الوجودي.
يختم الشاعر رحلته من التأمل إلى الصفاء، ومن الحيرة إلى اليقين، ليؤكد أن في داخل كل مساء ضوء ضحى قار ما دام في القلب إصرار على الإشراق والتألق، فتتجاوز سلمى حضورها كامرأة لتغدو رمزًا لصفاء الروح، وتصبح القصيدة مرآة لرحلة الإنسان بين الظلام والنور، بين الفناء والبقاء.