
ذياب ربحي الشرباتي …، رجلٌ عبر زمنه ولم يغادر ميدانه ، بقلم : المهندس غسان جابر
في المدن التي تنحت حجارتها من التاريخ، وتغتسل بدماء أبنائها كلما حاول الاحتلال أن يطفئ نبضها، تبقى الخليل شاهدة على رجالٍ لم يغادروا الميدان وإن غادروا الدنيا. أحد هؤلاء كان ذياب ربحي الشرباتي، المحامي والمناضل، ابن المجاهد ربحي الشرباتي، و شقيق الأسير المحرر أيمن ربحي الشرباتي. عائلةٌ حملت على كتفها العبء الطويل لفلسطين، فكانت حكايتها امتداداً لحكاية الأرض ذاتها.
ولد ذياب عام 1957 في قلب الخليل، المدينة التي لا تعرف الحياد، فإما أن تكون في صفها أو في صف من يريد طمسها. هناك، في أزقتها القديمة، تشكّل وعيه المبكر على معنى الظلم والاحتلال، وتفتحت عيناه على وجوه المناضلين الذين جعلوا من الخليل قلعة للمقاومة الشعبية. لم يكن غريباً إذن أن يحمل حلم النضال معه حين غادر إلى المغرب، ليدرس الحقوق في جامعة محمد الخامس، ويعود عام 1978 حاملاً شهادة القانون، لكنّه لم يكتفِ بالمرافعة في المحاكم، بل جعل من فلسطين قضيته الكبرى، ومن الشارع الفلسطيني قاعةً أوسع للعدالة.
بين المحاماة والسياسة
في مطلع الثمانينيات، اجتاز ذياب امتحان المحاماة وبدأ عمله القانوني، لكنه سرعان ما وجد نفسه في قلب المعركة الوطنية. لم يكن القانون عنده مهنة، بل سلاحاً في مواجهة ظلم الاحتلال، ومنبراً للدفاع عن الأسرى والمظلومين. وعندما اندلعت الانتفاضة الأولى عام 1987، كان في مقدمة الصفوف، من الذين نظموا العمل الشعبي وقادوا المواجهات السياسية والاجتماعية في الخليل.
ومنذ تلك اللحظة، لم يكن مجرد محامٍ أو ناشط، بل قائد تنظيمي في حركة التحرير الوطني الفلسطيني – فتح، صاغ مع رفاقه اللبنات الأولى للانتفاضة في الجنوب. ومع انتفاضة الأقصى عام 2000، عاد اسمه إلى الواجهة مجدداً، لا كرمزٍ عابر، بل كقائد ميداني يُدير العمل المقاوم والسياسي في وقتٍ كان الوطن كله يعيش بين الحصار والدمار.
مسؤولية لا تعرف الهدوء
في عام 1998، تولّى منصب أمين سر حركة فتح في محافظة الخليل، الموقع الذي جعله في صميم العاصفة. لم يكن المنصب عنده وجاهةً تنظيمية، بل مسؤولية ثقيلة حملها بصمت ووعي. كان يؤمن أن التنظيم ليس كلماتٍ تُقال، بل قدرة على الفعل وضبط الإيقاع، وأن القائد الحقيقي هو من يظلّ بين الناس، يسمع نبض الشارع لا صدى المكتب.
في زمنٍ كثرت فيه الشعارات، كان ذياب يختار الفعل على القول، والميدان على المنبر.
صوت النقابة وضمير الناس
خارج حدود التنظيم، امتدّ دوره إلى المجتمع المدني والنقابي. أسس وشارك في نقابة بلدية الخليل ونقابة المعلمين، مدافعاً شرساً عن حقوق العاملين والموظفين، رافضاً كل أشكال التمييز والتهميش.
كان يؤمن أن الكفاح النقابي هو الوجه المدني للمقاومة الوطنية، وأن العدالة الاجتماعية لا تقلّ قداسة عن العدالة السياسية. ومن هذا الإيمان، نمت علاقاته مع مختلف القوى الوطنية والإسلامية، فكان جسراً يربط بين المتخاصمين، ورجل توازنٍ في زمن الانقسام.
طريق السجون والاختبار
لم يكن طريقه مفروشاً بالورود. اعتقل عدة مرات منذ عام 1974، وهو بعد فتى لم يتجاوز السابعة عشرة. وتكررت اعتقالاته في الثمانينيات والتسعينيات، وكان آخرها عام 1991. وفي كل مرة كان يخرج أكثر صلابة، كأن السجن بالنسبة له محطة مراجعة لا نهاية طريق.
الرحيل… والظل الذي لم يغب
في عام 2006، باغتته نوبة قلبية أنهت مسيرته وهو في التاسعة والأربعين من عمره، لكن ظله لم يغادر الخليل. خرجت المدينة في جنازة تليق بقائدٍ وطنيٍّ ترك بصمته على كل زاوية فيها. نعتته حركة فتح ونعته القوى الوطنية والإسلامية، واتفق الجميع على أنه كان نموذجاً نادراً لرجل المبدأ، الذي جمع بين العقل التنظيمي والضمير الوطني.
وهكذا كان الرجل…
لم يكن ذياب ربحي الشرباتي قائداً يسعى إلى مجدٍ شخصي، بل مناضلاً يرى المجد في عيون الناس الذين دافع عنهم. كان يعتقد أن فلسطين لا تحتاج إلى أبطالٍ جدد بقدر ما تحتاج إلى رجالٍ يواصلون المسيرة بصدقٍ ووعيٍ وإخلاص.
وحين رحل، لم يترك وراءه ثروةً ولا منصباً، بل ترك ذكرى رجلٍ كان صادقاً مع نفسه ومع وطنه.
ذلك النوع من الرجال الذين لا يُشيَّعون مرتين، لأنهم حين يرحلون يظلون أحياءً في ذاكرة مدينتهم، وفي ضمير وطنٍ لا يزال يبحث عن أمثالهم.
- – م. غسان جابر – مهندس و سياسي فلسطيني – قيادي في حركة المبادرة الوطنية الفلسطينية – نائب رئيس لجنة تجار باب الزاوية و البلدة القديمة في الخليل.