
حين يصبح ناقل الجهل أخطر من صانع الأكاذيب ، بقلم : معمر يوسف العويوي
في زمن تتسابق فيه الروايات وتتنازع فيه الحقائق على الشاشات، لم تعد المعركة الإعلامية أقل خطورة من المعركة الميدانية. فالرصاصة التي تقتل جسدًا في الميدان، توازيها الكلمة التي تقتل الوعي في العقول.
الرواية الإسرائيلية ليست سرًّا، فهي رواية معلومة المصدر، معلومة الهدف، تُدار من غرفٍ مدروسة ومؤسسات ضخمة تمتلك أدوات النفوذ والتأثير. هي رواية تُبرّر القتل وتُعيد تعريف الإبادة على أنها “دفاع عن النفس”، وتحوّل الضحية إلى “مُتهم”. إنها آلة إعلامية تعمل بوعي كامل، تعرف ما تريد، وإلى أين تتجه، ولمن تُوجّه خطابها.
لكن الخطر الحقيقي لا يكمن في تلك الرواية المنظمة، بل في الرواية المنقولة عن جهل.
إن أخطر ما نواجهه اليوم هو أن يتبنّى بعض أبناء جلدتنا – بحسن نية أو بسطحية فكر – ما يروّجه إعلام الاحتلال، فيعيدون تكراره على مواقع التواصل أو في القنوات، وكأنهم يُترجمون صوت العدو بلغة محلية.
العدو يعرف أنه يروّج الكذب لخدمة هدف سياسي وعسكري واضح، لكن ناقل الجهل يروّج الكذب وهو يظنه “تحليلًا” أو “رأيًا حرًا” أو “حيادًا إعلاميًا”. وهنا تكمن الكارثة.
إن من يبرّر جرائم الاحتلال دون وعي، أو يساوي بين الجلاد والضحية، أو يشارك منشورات العدو دون تحقق، لا يقل خطرًا عن آلة الإعلام الصهيونية نفسها، بل ربما يفوقها خطرًا لأنه يهدم من الداخل، ويمنح رواية العدو ملامح محلية وشرعية شعبية.
وما يزيد الطين بِلّة، أن المناكفات السياسية الداخلية بين الفصائل والأطراف العربية تُسهم اليوم في تعزيز الرواية الإسرائيلية أكثر مما تفعل قنوات تل أبيب نفسها.
فعندما تنشغل القوى الفلسطينية والعربية بتبادل الاتهامات، وتغيب الأولوية الوطنية لصالح الحسابات الحزبية، يصفّق الاحتلال بسعادة. فكل انقسام إعلامي، وكل خطاب كراهية داخلي، وكل معركة جانبية على الشاشات، تُضعف الرواية الفلسطينية وتمنح رواية العدو قوة جديدة.
لقد نجح الاحتلال في هندسة سرديته، لكنه ما كان ليتمكّن من تعميمها لولا هذا الفراغ العربي الإعلامي، وغياب الوعي الجمعي الذي يميّز بين النقد الوطني والنقد الموجّه من الخارج.
إن الوعي الإعلامي اليوم هو شكل من أشكال المقاومة.
فلا يجوز أن نواجه العدو بسلاحٍ مكشوف ووعيٍ مغشوش.
ولا يمكننا أن نحمي الحقيقة إذا كان بعضنا يقتبسها من فم العدو.
فلنحذر إذًا من “ناقل الجهل” أكثر مما نحذر من “صانع الأكاذيب”،
لأن الأول يبرر القتل وهو لا يدري،
بينما الثاني يقتل وهو يعرف تمامًا ما يفعل.