12:24 صباحًا / 12 أكتوبر، 2025
آخر الاخبار

“ الصفقة الناقصة … صرخة عائلات الأسرى المؤبدات ، لا صفقة بلا رموزنا الوطنية ” ، بقلم : محمد التاج

“الصفقة الناقصة … صرخة عائلات الأسرى المؤبدات: لا صفقة بلا رموزنا الوطنية” ، بقلم : محمد التاج

في لحظةٍ كان يفترض أن تكون من أسعد لحظات الشعب الفلسطيني، حين بدأت الأخبار تتحدث عن اقتراب موعد الإفراج عن مئات الأسرى من أصحاب الأحكام العالية والمؤبدات، تحول الأمل إلى وجع، والفرحة المنتظرة إلى خيبةٍ جديدة، بعد أن كشفت الساعات الأخيرة عن تنصل سلطات الاحتلال الإسرائيلي من التزاماتها، وتقليص القائمة الموعودة من (250) أسيرا إلى (195) فقط، في محاولة مكشوفة لتفريغ الصفقة من مضمونها الإنساني والسياسي، واستبعاد قادة ورموز يشكّلون ذاكرة النضال الفلسطيني وكرامة حركته الوطنية الأسيرة.

تقول عائلات الأسرى إنهم لم يناموا منذ الإعلان الأول عن الصفقة. العيون كانت معلّقة بالأسماء، والأمهات أعددن القلوب قبل البيوت لاستقبال الأحبة بعد سنين من العذاب. لكن الفرحة اختنقت حين تبين أن العشرات ممن ينتظرون منذ عقود ما زالوا خارج القوائم المنشورة، وأن الاحتلال قرر – بقرار أمني بارد – أن يواصل معاقبتهم حتى في لحظة الانفراج.

لقد كانت الصفقة بالنسبة لأهالي الأسرى لحظة اختبار إنساني قبل أن تكون سياسية، ومع ذلك، اختارت إسرائيل أن تجعلها ساحة إذلال جديدة، لتثبت مرة أخرى أن عقلها الأمني لا يفهم لغة الاتفاقات ولا يفي بتعهداته حتى بوجود الوسطاء الدوليين.

كيف يمكن لأم أو زوجة أسيرٍ محكوم بالمؤبدات منذ أكثر من عشرين او ثلاثين عاما أن تفهم أن “الصفقة” لم تشمل ابنها لأن “الشاباك” اعترض على اسمه؟ بأي منطق يستثنى من نذروا أعمارهم لوطنهم، من بينهم مروان البرغوثي، أحمد سعدات، عبد الله البرغوثي، حسن سلامة، عباس السيد، عاهد ابو غلمة، ابراهيم حامد، وغيرهم من الرموز الوطنية التي توحدت حولها كل ألوان الطيف الفلسطيني؟


لقد ظن كثيرون أن هذه اللحظة ستكون بداية لاستعادة الثقة بالعمل الوطني الجماعي، وأن الصفقة ستشمل من يجمع عليهم الفلسطينيون كرموز حرية، لا أن تتحول إلى قائمة مجتزأة ترضي الحسابات الحزبية الإسرائيلية وتفرغ الإنجاز من معناه الحقيقي.

ولم يكن استبعاد هؤلاء الأبطال صدفة. فإسرائيل أرادت أن توصل رسالة واضحة: “لن نفرج عن من يستطيع إعادة إشعال الوعي”، أرادت صفقة تفرغها من جوهرها السياسي المقاوم، وتحصرها في الجانب الإنساني فحسب، كي لا تتحول إلى انتصار معنوي للفلسطينيين.

إن ما جرى لا يمكن تفسيره إلا بوجود تراخ من الوسطاء الدوليين، الذين اكتفوا بالتصريحات الدبلوماسية الناعمة، وغضوا الطرف عن التراجع الإسرائيلي الواضح عن الاتفاق. كان من المفترض أن تكون الوساطة ضمانة للتنفيذ لا مجرد شاهد على الانتهاك، وأن تقف أمام التنصل الإسرائيلي بوضوح لا بتردد.

لقد أظهرت التجربة مرة أخرى أن الاحتلال لا يحترم إلا من يفرض عليه احترامه. فالوعود التي قطعتها إسرائيل للوسطاء كانت واضحة في البداية: “250 أسيرا من أصحاب المؤبدات”، لكن سرعان ما تحولت القائمة إلى 195، ثم جرى استبعاد أكثر من 20 اسما دون تفسير، وكأن هؤلاء الأسرى أرقام زائدة في معادلةٍ أمنية قاسية.

من المؤلم أن تُدار قضية الأسرى وكأنها ملف تفاوضي هامشي، بينما هي في الحقيقة القضية الأشد حساسية في الوجدان الفلسطيني، لأنها تمس كل بيتٍ وكل ذاكرة.

تشير المعلومات إلى أن الخلافات داخل المؤسسات الأمنية الإسرائيلية كانت حادة حول طبيعة الأسماء. فبينما وافق المستوى السياسي على القائمة الموسعة، اعترض جهاز “الشاباك” وقيادة الجيش على إطلاق سراح من وصفوهم بـ“ذوي الأيدي الملطخة بالدماء”، وخصوصا من شاركوا في عمليات كبرى خلال انتفاضة الأقصى.


ثم جاءت اللحظة الفاصلة حين ضغطت بعض الأحزاب اليمينية داخل حكومة الاحتلال على رئيس الوزراء لوقف تنفيذ الجزء المتعلق بالقادة الرموز، بذريعة أن الإفراج عنهم سيعتبر “انتصارا لحماس والمقاومة الفلسطينية ” و”هزيمة للردع الإسرائيلي”.

هكذا ببساطة، جرى اختزال حياة مئات الأسرى ودموع عائلاتهم في توازنات انتخابية إسرائيلية داخلية، وكأن الأسرى الفلسطينيين ورقة تفاوض تستخدم حينا للمقايضة وحينا للابتزاز.

من هنا، فإن الرسالة التي تخرج اليوم من قلوب عائلات الأسرى في الضفة وغزة والقدس ومخيمات الشتات، هي رسالة واحدة وواضحة:


لا تقبلوا صفقة ناقصة. لا تفاوض على حرية البعض دون الكل. ولا تنازل عن الرموز الذين يمثلون كرامتنا الوطنية.

إن الوفد الفلسطيني المفاوض، بكل أطيافه ومكوناته، مدعو اليوم لتحويل هذا الغضب الشعبي إلى موقف تفاوضي صلب. فالاحتلال لم يكتفِ بالتنصل، بل يحاول اختبار قدرة الوفد الفلسطيني المفاوض على الصمود في لحظة الحسم.
إن الإصرار على شمول كل أصحاب المؤبدات في الصفقة، وفي مقدمتهم القادة التاريخيون، هو اختبار للكرامة الوطنية قبل أن يكون مطلبا تفاوضيا.

ليس المطلوب اليوم بيانات تنديد أو حملات غضب عاطفية، بل موقف موحد وصارم يربط تنفيذ أي بند من الصفقة بالإفراج عن كافة الأسرى المؤبدات دون استثناء.


فما قيمة صفقةٍ تبقي رموز الحرية في الزنازين؟ وما معنى الحديث عن “مرحلة أولى” إن كانت تستثني من أعطوا المعنى للحرية نفسها؟

على الوفد الفلسطيني المفاوض أن يتحدث بلغة الميدان، لا بلغة المجاملة الدبلوماسية. فشعبنا تعب من الوعود، وعائلات الأسرى سئمت الانتظار. إن لحظة الحقيقة الآن هي بين أن نثبت أن الأسرى قضية وطنية جامعة لا تخضع للحسابات السياسية، أو أن نترك الاحتلال يفرض منطقه الأمني مرة بعد مرة.

لقد علمنا الأسرى أنفسهم أن الكرامة لا تجزأ. فمن عاش اكثر من عشرين وثلاثين عاما خلف القضبان وهو مرفوع الرأس، لن يقبل أن يقال له اليوم إن اسمه “مرفوض أمنياً”. ومن ضحى بعمره لأجل فلسطين لا يختصر في بند تفاوضي ولا في رقم على قائمة.

إن عائلات الأسرى اليوم ترفع صوتها لا طلبا للشفقة، بل للمطالبة بالوفاء. الوفاء للدماء التي سالت، للسنوات التي ضاعت، وللأحلام التي لم تمت رغم كل ما خذلها.

وإن كانت إسرائيل تظن أن استثناء الرموز سيضعف الإرادة الفلسطينية، فهي مخطئة. فكل أسيرٍ محرر يحمل صدى الذين بقوا خلفه، وكل صفقة ناقصة ستبقى وصمة على جبين من قبلها على هذا الشكل.

ليعلم العالم كله أن الحرية لا تجزّأ، وأن الشعب الفلسطيني لن يحتفل بينما أبناؤه القادة باقون في العتمة.
وليعلم الوسطاء أن صمتهم عن التنصل هو خيانة لمبدأ العدالة.


وليعلم الوفد المفاوض أن التاريخ سيكتب موقفه اليوم، إما أن يسجله في خانة من صانوا العهد، أو من مروا بصمتٍ على صفقةٍ ناقصة.

فالصفقة الحقيقية ليست ما يعلَن على الشاشات، بل ما ينجز في ضمير الشعب.
وحتى آخر قيدٍ يكسر، وحتى آخر باب زنزانة يفتح، سيبقى نداء العائلات صريحا:
“لا صفقة بلا رموزنا الوطنية … ولا حرية ناقصة في وطنٍ كله أسير.”

شاهد أيضاً

مستوطنون يهاجمون تجمع خلة السدرة البدوي شمال شرق القدس

مستوطنون يهاجمون تجمع خلة السدرة البدوي شمال شرق القدس

شفا – هاجم مستوطنون التجمع البدوي في منطقة خلة السدرة البدوي بالقرب من بلدة مخماس، …