
من تخاطب أيها الكاتب؟ بين الذات والقارئ والزمن ، ، بقلم : سماحه حسون
الكتابة ليست مجرد كلمات متراصة على صفحة بيضاء، ولا حروف تتناثر بلا معنى. الكاتب الحقيقي، في عمقه وروحه، هو من يعرف أنّ كل جملة يكتبها ليست مجرد تعبير عن فكر، بل هي رسالة إلى من يهمه أن يسمع، يرى، ويشعر. لذلك، السؤال “من تخاطب أيها الكاتب؟” ليس سؤالًا شكليًا، بل هو مفتاح لفهم غنى النص وجماله.
أول من يخاطبه الكاتب غالبًا هو ذاته. في كل كلمة يكتبها، هناك صدى لنفسه، انعكاس لشجونه، تساؤلاته، وخواطره الخفية. فالكاتب، في مواجهة الورقة البيضاء، قد يسائل ذاته عن معنى وجوده، عن الألم الذي يعتصر قلبه، أو عن الحب الذي يلتهم روحه. على سبيل المثال، عندما يكتب شاعر:
“أبني جسرًا بين ظلي وأنا، لأفهم من أنا قبل أن أفهم من أنتم”
فهو في حقيقة الأمر يخاطب ذاته قبل أن يخاطب العالم.
لكن الكتابة لا تبقى حكرًا على الذات، فهي تتوجه دومًا إلى القارئ. القارئ هو من يمنح الكلمات حياة، ومن يترجم الصمت بين السطور إلى شعور ملموس. الكاتب يخاطبه بصوت خافت أو صارخ، يحاول أن يفتح له نافذة على داخله، وأن يجعل القارئ شريكًا في رحلة البحث عن الحقيقة. مثال واضح على ذلك نجده في روايات جبران خليل جبران، حين يخاطب القارئ بأسلوب مباشر:
“لا تسألوا عن الطريق، بل استمعوا إلى قلبكم، فهو يعرف السبيل”
هنا تتبدل الكتابة من اعتراف ذاتي إلى دعوة للتأمل والمشاركة الإنسانية.
ثم هناك المخاطب الرمزي أو المفهومي، حيث يصبح الزمن، الوطن، الموت، أو الحب كيانات حية يُخاطبها الكاتب. في هذا الخطاب، تصبح الكلمة سلاحًا أو نافذة أو مرآة. فحين يكتب أحد الأدباء:
“أيها الوطن، هل تسمع أنيني بين ركام الأحلام؟”
يكون قد حول الكتابة إلى صرخة إنسانية، خطاب يتجاوز الشخص ويصل إلى الوعي الجمعي، إلى كل من يشعر بألم الوطن، أو بحنين الإنسان لفكرة أكبر منه.
ولا يمكن أن نغفل أن الكاتب أحيانًا يخاطب التاريخ والمستقبل، كمن يترك رسالة بين أيدينا عبر الزمن، يدعونا للتمعن، للتعلم، وربما للتغيير. فالكتابة هنا ليست مجرد تجربة شخصية، بل وصية إنسانية وثقافية. مثال على ذلك نجد في أعمال الأديب نجيب محفوظ حين يصف المجتمع المصري:
“أكتب لتظل الذاكرة حيّة، ليتذكر القادمون ما كنا وما نحن فيه”
هنا تتحول الكتابة إلى جسر يربط الحاضر بالمستقبل، الفرد بالمجتمع، والروح بالعالم.
في النهاية، السؤال “من تخاطب أيها الكاتب؟” ليس سؤالًا عن الشخص، بل عن العمق والغرض من الكتابة. الكاتب يخاطب ذاته، قارئه، مفاهيمه، مجتمعه، وتاريخه، وفي كل كلمة يكتبها تتجلى إنسانيته، حساسيته، وبصمته الفريدة. فالكتابة، في جوهرها، هي حوار دائم بين الداخل والخارج، بين الفرد والجماعة، بين الحاضر والمستقبل، وهي ذلك الصوت الذي يصرخ في الصمت ليعلن: أنا هنا، ونحن هنا، والكون كله شاهد على رحلتنا.