
السعودية… سيد الموقف وحارس حل الدولتين ، بقلم : المهندس غسان جابر
في لحظات التاريخ الكبرى، لا يُقاس وزن الدول بعدد جيوشها فقط، ولا بقدرتها على مراكمة الثروة وحيازة التكنولوجيا، بل بقدرتها على صياغة المعادلة الإقليمية وتحديد اتجاه البوصلة السياسية، وهنا تظهر السعودية، بكل ما تملكه من عمق في التاريخ والدين والجغرافيا والاقتصاد، كفاعل لا يمكن تجاوزه في أي حديث عن فلسطين وحل الدولتين. فما جرى مؤخرًا من اعترافات متتالية بدولة فلسطين، وما لحقه من موجة تأييد عالمي لفكرة الدولة المستقلة على حدود الرابع من حزيران 1967، ليس إلا ترجمة متأخرة لمعادلة صاغتها السعودية منذ أكثر من عقدين تحت مسمى المبادرة العربية للسلام، حين قررت أن تُدخل العالم العربي غرفة المفاوضات ببرنامج واحد وصوت واحد ورؤية واضحة: الأرض مقابل السلام، والدولة الفلسطينية مقابل التطبيع.
لقد كان واضحًا أن السعودية لم تقدم مبادرة في بيروت عام 2002 من أجل تسجيل موقف عابر في زمن الانتفاضة الثانية، بل كانت تقرأ المشهد الاستراتيجي القادم، وترى أن أي تسوية في الشرق الأوسط لا يمكن أن تُبنى إلا على قاعدة العدالة للفلسطينيين. غير أن تلك المبادرة جُمّدت طويلًا، وأُفرغت من مضمونها بفعل السياسات الإسرائيلية في الضم والتوسع الاستيطاني، وكذلك بفعل الانقسام الفلسطيني الداخلي الذي منح الاحتلال ذرائع إضافية للتهرب من الاستحقاق التاريخي.
لكن الزمن لم يرحم إسرائيل ولا حلفاءها. جاءت الحرب على غزة لتكسر أوهام القوة المطلقة، ولتضع العالم كله أمام سؤال أخلاقي وسياسي: هل يمكن استمرار احتلال شعب بأكمله تحت شعارات الأمن؟ عندها انفتحت النوافذ الدبلوماسية على نحو غير مسبوق، فبدأت دول في أوروبا وأمريكا اللاتينية وآسيا تعلن اعترافها بالدولة الفلسطينية، وارتفع صوت في واشنطن نفسها يلمّح إلى أن حل الدولتين لم يعد خيارًا، بل ضرورة إنقاذية.
في هذه اللحظة الحساسة، كان لا بد أن يُسمع الصوت السعودي. ليس لأن السعودية تملك المال والنفط فقط، بل لأنها تمثل الشرعية الدينية والسياسية للعالم العربي والإسلامي، ولأنها وحدها القادرة على الجمع بين القاهرة وعمان والدوحة وأبوظبي في غرفة واحدة، ووضع واشنطن وتل أبيب أمام معادلة جديدة: إما الاعتراف بالحق الفلسطيني، وإما الدخول في صراع مفتوح يهدد استقرار المنطقة كلها.
لقد أدركت السعودية أن الزمن يعمل لصالحها. فبينما تتراجع إسرائيل أخلاقيًا وسياسيًا، وتُحاصر عالميًا بجرائمها في غزة والضفة الغربية، تتقدم الرياض بخطوات محسوبة: فهي تتحدث مع واشنطن من موقع قوة، وتخاطب أوروبا بلغة المصالح، وتستوعب إيران وتركيا في معادلة الأمن الإقليمي، وتُذكّر الجميع أن مفتاح الحل في الشرق الأوسط يمر عبر القدس. لم يعد الحديث السعودي مجرد مبادرة مكتوبة في بيانات القمم، بل أصبح شرطًا سياسيًا لكل تسوية: لا تطبيع شامل مع إسرائيل قبل الاعتراف الصريح بدولة فلسطين، ولا استقرار استراتيجي دون حل الدولتين.
وإذا كانت بعض القوى الإسرائيلية تراهن على الزمن لابتلاع الضفة الغربية عبر الاستيطان، فإن السعودية تراهن على الزمن ذاته لفرض معادلة معاكسة: تحويل حل الدولتين من مجرد شعار إلى إجماع دولي، ثم إلى واقع سياسي لا يمكن تجاوزه. هنا تحديدًا يظهر المعنى الحقيقي لعبارة أن السعودية أصبحت “سيد الموقف” في الشرق الأوسط، لأنها لم تعد تكتفي برد الفعل، بل صارت تملك ورقة المبادرة، وتضع شروطها على الطاولة الدولية.
لكن المسؤولية لا تقع على السعودية وحدها. فالقوى الفلسطينية مطالَبة بأن تعيد ترتيب بيتها الداخلي، وأن تنهي انقسامها الذي يُضعف كل جهد عربي ودولي. لا يمكن للسعودية أن تدافع عن حل الدولتين فيما الفلسطينيون أنفسهم يتنازعون على سلطة منقوصة تحت الاحتلال. إن الصوت السعودي سيبقى قويًا ما دام يجد خلفه جبهة فلسطينية موحدة تعرف ماذا تريد.
إن اللحظة الراهنة تشبه كثيرًا لحظات التحول الكبرى في المنطقة، حين تسقط أوهام القوة العارية أمام صبر الشعوب وإرادتها. والسعودية، التي تملك مقومات القيادة الإقليمية، تعرف أن استقرارها واستقرار المنطقة لا ينفصلان عن العدالة للفلسطينيين. ومن هنا، فإن صوت الرياض ليس مجرد صدى لمطالب الفلسطينيين، بل هو تعبير عن مصلحة استراتيجية عربية أوسع، ترى أن حل الدولتين هو صمام الأمان الأخير قبل انفجار أكبر.
قد يقول قائل إن الطريق ما زال طويلًا، وإن إسرائيل لن تسلّم بسهولة، وهذا صحيح. غير أن السياسة ليست حسابًا ميكانيكيًا للقوة العسكرية، بل هي أيضًا إدراك للتحولات في الرأي العام الدولي ولإيقاع الزمن. والزمن هذه المرة ليس في صالح إسرائيل، بل في صالح مشروع الدولة الفلسطينية، شرط أن يجد قيادة قادرة على استثماره. وفي هذه المعادلة، السعودية هي الضامن الأكبر لأن يتحول الاعتراف الدولي إلى مسار سياسي حقيقي، وليست مجرد كلمات على ورق.
إن التاريخ سيذكر أن السعودية، حين وُضعت أمام خيار الصمت أو الانحياز للحق، اختارت أن تكون حارسًا لحل الدولتين، وأن تستخدم مكانتها لتفرض على العالم أن يرى ما حاول الاحتلال إخفاءه طويلًا: أن فلسطين ليست قضية شعب مقهور، بل قضية أمة بأكملها، وأن القدس ليست ورقة تفاوضية، بل قلب الهوية العربية والإسلامية. ومن هنا يبدأ المستقبل.
- – م. غسان جابر – مهندس و سياسي فلسطيني – قيادي في حركة المبادرة الوطنية الفلسطينية – نائب رئيس لجنة تجار باب الزاوية و البلدة القديمة في الخليل.