
بين عزلة إسرائيل وصعود الشرق ، فلسطين تعود إلى مركز المشهد الدولي ، بقلم : مروان إميل طوباسي
بعد أكثر من سبعمائة يوم من عدوان الإبادة والتطهير العرقي والتجويع والتهجير على غزة، وما يرافقه من جرائم الاستيطان والضم في الضفة الغربية وتهويد القدس والأجراءات الجارية لتنفيذ مشروع إسرائيل الكبرى ليس على أرض فلسطين فقط بل على حساب أراضٍ لدول شقيقة مجاورة من الأردن وسوريا ولبنان والعراق حتى قبرص . تكشف إسرائيل بذلك من جديد للمترددين عن وجهها الحقيقي كقوة استعمارية استيطانية وكيان مارق يفقد شرعيته الأخلاقية والسياسية المزعومة، حتى وإن امتلكت ترسانة عسكرية هائلة وفارق القوة بالمنطقة. لقد تعلمنا من التاريخ أن الهزيمة الأخلاقية تسبق دائمًا الهزيمة السياسية. ففي فيتنام والجزائر وجنوب أفريقيا، الاستعمار والعنصرية انتصرا بالنار لكنهما انهارا حين سقطا أخلاقيًا أمام شعوبهما وفي شوارع العالم .
اليوم نرى إسرائيل الاستيطانية الإحلالية تسير على هذا الطريق ذاته. قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الأخير يوم أمس، حيث صوّتت 142 دولة لصالح الاعتراف بدولة فلسطين، يجسد حجم العزلة المتزايدة التي تعيشها ومعها الحليف الاستعماري الولايات المتحدة. ورغم أن هذا الاعتراف يبقى ناقصًا ما لم يقترن بعقوبات ومقاطعة شاملة تفكك منظومة الاستعمار الاستيطاني، إلا أنه مؤشر على أن العالم لم يعد يتقبل استمرار نظام الفصل العنصري والاحتلال والإبادة الجماعية.
إسرائيل لم تعد “أداة” غربية بل غدت “عبئًا استراتيجيا” وأخلاقيا يفاقم عزلة الغرب ويكشف تناقضاته أمام شعوبه. بل إن التناقضات طالت المجتمعات اليهودية ذاتها في الداخل الإسرائيلي وحول العالم . فرغم أن الصهيونية أُنشأت أصلاً كحركة عنصرية متقدمة للفكر الاستعماري، وتم توظيف دورها لتقويض الحركات التقدمية بين اليهود أنفسهم وإثارة النعرات داخل المجتمعات الأوروبية لإعاقة حل المسألة اليهودية فيها، ولتنفيذ مقولة “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض” في فلسطين تحت “مزاعم قومية”، فإنها عادت اليوم في دورة تاريخية جديدة لتتحول إلى عبئ جديد على تلك المجتمعات ذاتها . وأصبحت سببا مباشرا لتهديد مصالح اليهود أنفسهم بدلاً من حمايتها، وهو ما يفتح باباً آجخر لتقويض مشروعها من داخلها عبر صراعاتها وتناقضاتها البنيوية، إن تمكنا والشعوب معنا من استمرار سياسات الهجوم وفضح جوهر فكر هذه الحركة ومكوناتها .
هذا التحول ينعكس أيضًا في الغرب نفسه. ففي الولايات المتحدة مثلاً، تشير الاستطلاعات إلى أن نحو 60% من الشباب يتضامنون مع قضيتنا الوطنية، خاصة داخل الحزب الديمقراطي والجاليات اليهودية، وحتى في بعض الأوساط الليبرالية من الحزب الجمهوري. إسرائيل لم تعد “البقرة المقدسة” في الوعي الأميركي اليوم، وهو تحول استراتيجي عميق سيترك أثره على السياسة الأميركية الخارجية والداخلية على السواء. وفي أوروبا، تضطر حكومات عديدة لاتخاذ مواقف أقل انحيازًا لإسرائيل تحت ضغط الشارع ووعي شعوبها.
لكن هذه المتغيرات لن تتحول إلى إنجاز حقيقي إلا إذا امتلكنا نحن الفلسطينيين وضوح الرؤية والإرادة الوطنية المستقلة والكرامة الوطنية، ونجحنا في تحقيق الوحدة بين الكل الفلسطيني وترتيب بيتنا الداخلي بشفافية وديمقراطية والخروج من أزمة نظامنا السياسي بالانتخابات العامة والتمسك برؤية التحرر الوطني، وبناء تحالفاتنا مع قوى التحرر والتقدم في العالم بعيدا عن الاشتراطات الأميركية، واستغلال كافة أوراق القوة التي بأيدينا بعقلانية دون تراجعات عن الحقوق غير القابلة للتصرف.
إن ما يجري في فلسطين لا ينفصل عن السياق الأوسع لتحولات النظام الدولي اليوم . فالشرق بات اليوم مركزا متقدما للفعل الدولي مع صعود منظمة شنغهاي للتعاون وتوسع “البريكس”. في القمة الآسيوية الأخيرة لشنغهاي، حيث اجتمع قادة الصين وروسيا والهند إلى جانب قوى إقليمية أخرى، لم يكن المشهد مجرد بروتوكول، بل إعلانا عن ولادة زمن جديد . القوى الصاعدة في آسيا تمتلك اليوم مزيجا هائلا من مقومات القوة ، التكنولوجيا المتقدمة في الصين والهند وكوريا، ثروات الطاقة في إيران وروسيا، والطاقات البشرية التي تشكل أكثر من ٦٠% من سكان العالم .
هذه القدرات تجعل الشرق قوة قادرة على إعادة صياغة قواعد اللعبة الدولية، ولو بشكل تدريجي لكنه حتمي بحكم حركة التاريخ. الصين وحدها تسجل أكثر من ٣٠% من براءات الاختراع العالمية، وروسيا تنتج نحو ١٠% من النفط و ١٧% من الغاز الطبيعي. كل ذلك يعكس انتقال مركز الثقل من الغرب إلى الشرق بالتعاون مع دول الجنوب العالمي في أميركا اللاتينية وأفريقيا، ويضع حدًا لمرحلة الانفراد الأميركي بإدارة النظام الدولي .
الولايات المتحدة والغرب يواجهان اليوم اختبارا صعبا، حيث لم يعد بوسعهما الاستمرار في فرض الهيمنة على مقدرات الشعوب عبر النظام الأحادي القطبية . فقد تصاعدت مقاومة الفكر النيوليبرالي المتوحش الذي يستخدم الحروب ذريعة لفرض السيطرة تحت ذريعة نشر السلام بين شعوب العالم ، وتكاثرت الأصوات العالمية المطالبة بالحرية والعدالة والمساواة، بحيث أصبحت فلسطين رمزا لهذه المطالب والأصوات بعد بدء جريمة عدوان الإبادة الجماعية على غزة خصوصا ، وأصبحت فلسطين اليوم قضية مركزية تختبر صدقية أي نظام عالمي جديد .
فلسطين اليوم لم تعد مجرد قضية إقليمية، بل المحك الأخلاقي والسياسي لشرعية النظام العالمي المقبل . إن دماء أبنائنا تختصر معنى الحرية والكرامة الوطنية، وتضع العالم أمام سؤال جوهري اليوم ، هل يمكن لنظام دولي جديد أن يكون أكثر عدالة بينما يستمر آخر استعمار استيطاني على وجه الأرض؟
واليوم ، مع انعقاد القمة العربية الإسلامية في الدوحة، فإن الأنظار تتجه لترى إن كانت هذه القمة ستكتفي ببيانات التنديد والشجب ، وتبقى رهينة الرهبة والخوف من التهديدات الأمريكية تسدد لها ثمن أستعمارها ، أم أنها ستشكل نقطة انعطاف حقيقية في بناء موقف عربي ـ إسلامي موحد مستقل يرتقي إلى مستوى تضحيات شعبنا ويستثمر التحولات الدولية الجارية . فالتاريخ لن يرحم من يقف متفرجا أمام جريمة الإبادة والتهجير او متعاوناً في سياق تنفيذه الذي سيطال الجميع مع الوقت ان لم يتوقف ، كما أن شرعية أي نظام عالمي جديد ستبقى ناقصة ما لم تُرفع راية فلسطين حرّة على أرضها .