
“حين يلتقي الضوء بالجرح : تونس تعانق فلسطين عبر إنسانية كوثر بن هنية وعامر حليحل في سينما غزة” ، بقلم : قمر عبد الرحمن
في زمن تتكثّف فيه القسوة على الشاشة كما في الواقع، يظل الفن الحقيقي نافذةً إلى القلب ومرآةً للروح. هكذا يبدأ فيلم “صوت هند رجب”، دوكودراما تونسي–فرنسي أخرجته كوثر بن هنية عام 2025، مستندًا إلى القصة الحقيقية للطفلة الغزية هند رجب (5 سنوات)، التي علقت وسط السيارة المحترقة بعد استشهاد عائلتها في قصف إسرائيلي.
يمتد الفيلم 89 دقيقة، ويعتمد على التسجيلات الصوتية الحقيقية لمكالمات هند مع طواقم الإسعاف، فيحوّل صراخها المبحوح إلى قلب نابض يهمس للعالم بعجزه. عُرض لأول مرة في مهرجان البندقية السينمائي، حيث حصد تصفيقًا حارًا دام أكثر من عشرين دقيقة، ويُعدّ اليوم من أبرز الأعمال المرشحة للأوسكار 2026 عن تونس.
في هذا الإطار الإنساني العميق، تتجلى روح الفن الصادق: تتلاقى إنسانية المخرجة التونسية كوثر بن هنية وصدق الممثل والكاتب الفلسطيني عامر حليحل في تجربةٍ سينمائية تتجاوز الحدود، لتصبح الشاشة مساحة أرحب من الجغرافيا، وجسرًا من التحنان في وجه الحصار.
كوثر، التي اعتادت أن تحفر في عمق التجربة البشرية بصرامة الفن ورهافة الروح، لم تدخل الحكاية كأيقونة بعيدة، بل كإنسانة تُصغي، تُساند، وتشارك. حضورها كان بمثابة يد تمتد لتقول: لسنا وحدنا في مواجهة الظلمة. ومن جانب آخر، يطلّ عامر حليحل بروحه المجبولة من الشعر والمسرح، يضع خبرته وأصالته في خدمة عمل يتجاوز الحدود. أداؤه ليس تمثيلًا وحسب، بل تعاطفًا حيًا يحوّل الشخصية إلى كائن من لحم ودم يذكّرنا بقدرة الفن على مداواة الفقد.
أما هند رجب، فتصبح صرختها المبحوحة محور الفيلم، من قلب غزة المحاصرة، لكنها صرخة تُصاغ بلغة الصورة، بلغة تستبقي الأمل وسط العتمة. وحين يتضافر عطاؤها مع رهافة كوثر وعمق عامر، ينفتح العمل على أفق يتجاوز السينما إلى معنى المشاركة الإنسانية في أكثر أشكالها نقاءً.
ليست هذه التجربة مجرد تعاون فنّي، بل أشبه بميثاق أخلاقي وجمالي: أن يكون الفن في خدمة الإنسان، وأن تكون الإنسانية في خدمة السينما. إنّه التلاقي النادر بين جراح المكان وحكمة التجربة، بين الغربة والذاكرة، بين من يملكون الصوت ومن يفتّشون عنه، وبين علاقة العشق العميقة بين تونس وفلسطين التي تتجلّى في كل إطار من الفيلم.
هكذا يصير الفيلم أكثر من شاشة مضاءة: يصبح وعدًا بأننا نستطيع أن نُبصر بعضنا في العتمة، وأن الكاميرا حين تصدق تتحوّل إلى نافذة على الكرامة ومرآة تذكّرنا أنّنا، مهما تباعدت خرائطنا، أبناء وجع واحد وحلم واحد.
- – قمر عبد الرحمن – فلسطين