2:44 مساءً / 6 سبتمبر، 2025
آخر الاخبار

سبعمئة يوم من الجحيم ، غزة بين الموت والذاكرة ، ، بقلم : د. منى أبو حمدية

سبعمئة يوم من الجحيم ، غزة بين الموت والذاكرة ، ، بقلم : د. منى أبو حمدية


سبعمئة يوم مضت على غزة، تحمل كل يوم فيها صدى انفجار، كل يوم فيها وقع الموت على الأحياء، وكل يوم تنسج المدينة مأساة جديدة من خيوط الدم والحزن. هذه الأيام لم تُقضَ على الأرض فقط، بل حفرت في النفوس ندوبًا عميقة، وخلقت ذاكرة مؤلمة لكل من عاشها أو شهدها من بعيد.


المدينة لم تعد مجرد مكان؛ لقد أصبحت رمزًا للمعاناة والصمود، مرآةً لما يفعله الحصار والتدمير بالإنسان. في هذه المقالة، نسلط الضوء على سبعمئة يوم من الألم، عبر سرد يغوص في تفاصيل الحياة اليومية، ويتتبع أثر الحرب على النفوس، والصمت العالمي، والفقد الذي لا يُحتمل.


عندما تمشي في ما كان يسمى بشوارع غزة، تشعر أن الزمن توقف عند لحظة الانفجار الأول. المنازل التي كانت ملاذًا، صارت أكوامًا من الحطام، والمدارس التي كانت تصدح بالضحك، تحولت إلى ملاجئ مؤقتة للنازحين. الركام يغطي الأرصفة، والغبار يلتصق بالملابس والجلد، والسماء رمادية كثيفة، وكأنها تشارك الأرض معاناتها.

في كل بيت، قصة فقد: أم تبحث عن طفلها بين الأنقاض، أب ينظر إلى المكان الذي اختفت فيه زوجته واولاده، شيوخ يجلسون أمام البيوت المهدمة يستحضرون الذكريات التي لا تتوقف. الفقد هنا ليس مجرد موت جسدي، بل فقد للأمان، فقد للطفولة، فقد للكرامة الإنسانية.


حتى الهواء يبدو مشبعًا بالحزن؛ كل نفس يشبه صفعة من واقعٍ لا يرحم، وكل لحظة انتظار للمساعدات تحمل شعورًا باليأس والضياع. في سبعمئة يوم، يصبح الركام ليس فقط مادة، بل شاهدًا على القلوب المنهكة، وعلى حياة تتشبث بالأمل رغم كل شيء.


الصراخ هنا لغة المدينة، لغة أولئك الذين يعيشون تحت وطأة الرعب المستمر. أصوات الأطفال المختبئين تحت الركام، صرخات النساء اللواتي فقدن أحبائهن، ونحيب الشيوخ الذين يروون قصص الموت المتكرر، كلها تصنع سيمفونية من الحزن التي تعلو فوق صمت العالم.


الدماء ليست مجرد سائل؛ إنها حبر المدينة، تنقش على الجدران أسماء الضحايا، وتترك ندوبًا في النفوس لا تندمل. كل انفجار يضيف طبقة جديدة من الألم، وكل لحظة انتظار في الشوارع المحطمة تصبح اختبارًا للبقاء.
الأمهات اللواتي فقدن أولادهن يزرعن الأمل في كل زاوية من خيامهن، والنازحون يمشون في طرقات المدينة كما لو كانوا أشباحًا تبحث عن مأوى، والشيوخ يكتبون على جدران الركام قصص الصمود، محاولةً منهم أن يثبتوا أن الحياة لم تنتهِ بعد، وأن غزة رغم الألم ما زالت حية.


في هذا الفصل من المأساة، يظهر التخلي بأوضح صوره: المدينة تواجه الوحشية بلا حماية، بلا دعم حقيقي، بلا رحمة. العالم الصامت ينظر من بعيد، التحليل السياسي يتاجر بالدماء، والإعلام الهابط يختار الربح على حساب الحقيقة.
النازحون يعيشون في خيام هزيلة، والمستشفيات مزدحمة لا تكفي أعداد الجرحى، والمدارس صارت ملاجئ مؤقتة. المدينة تحولت إلى متاهة من الألم، حيث كل زاوية تحكي قصة صمود ضد الإهمال العالمي.


المعاناة هنا لا تُقاس بالزمن، بل بمدى تأثيرها على النفوس:


عيون فقدت بريقها،
قلوب مثقلة بالحزن،
شبابٌ ينظرون إلى السماء على أمل غيم يخفف الحر،
وأطفال يتعلمون منذ الصغر معنى الانتظار والخوف والحرمان.


كل شارع في غزة يحمل قصة حية، كل بيت شاهد على مأساة فريدة. الطفل الذي يبحث عن والديه، الأم التي تحضن صغارها بين الركام، الشاب الذي أصبح وحيدًا بعد أن فقد أصدقاءه وجيرانه، كلها تفاصيل تُجسد مأساة سبعمئة يوم من الألم المستمر.

الخيام، التي كانت مجرد قماش بسيط، أصبحت مأوى لكل شيء: للحزن، للخوف، للأمل الضائع، وللصمود الذي يتجدد كل صباح. الحياة هنا صراع مستمر، والموت رفيق دائم، لكن الأمل يتسلل بين الأنقاض، يهمس بأن غزة لم تمت، وأن صمود أهلها أعظم من أي قوة تدميرية.


رغم كل الرماد والحزن، هناك بصيص من الأمل يتسلل بين الأنقاض. الأطفال الذين كبروا في زمن الحرب يحلمون باللعب في الشوارع، النساء اللواتي صمدن يزرعن الأمل في البيوت المهدمة، الشيوخ الذين يروون التاريخ يكتبون على جدران الحزن بأن غزة لن تُنسى.


المدينة اليوم مدرسة للصمود، ومرآة للشجاعة الإنسانية في مواجهة الموت والدمار. سبعمئة يوم من الألم لم تكسر غزة، ولم توقف حلم الحرية، بل زادها قوة على المقاومة، وعمقًا في الصمود.


سبعمئة يوم من الجحيم ليست مجرد أيام على التقويم، بل عقد من الزمن محفور في ذاكرة كل فلسطيني. غزة اليوم ليست مجرد مدينة، بل شهادة حية على القدرة الإنسانية على الصبر في أصعب الظروف، وعلى صلابة الروح التي تقاوم حتى عندما ينهار كل شيء حولها.


وحتى مع كل الألم، يبقى الأمل يتسلل بين الأنقاض، يهمس بأن غزة ستبقى صامدة، وأن ذاكرة سبعمئة يوم لن تُمحى، وأن العدالة ستأتي مهما طال الزمن.

  • – د. منى أبو حمدية – اكاديمية وباحثة

شاهد أيضاً

الهباش أمام مؤتمر جماهيري في باكستان: شعبنا لن يرحل عن أرضه وسيبقى صامدا فيها

الهباش أمام مؤتمر جماهيري في باكستان: شعبنا لن يرحل عن أرضه وسيبقى صامدا فيها

شفا – قال قاضي القضاة، مستشار الرئيس للشؤون الدينية والإسلامية محمود الهباش، إن الشعب الفلسطيني …