
التوجهات التربوية المستقبلية ، بقلم : د. فواز عقل
إن المهارات التي ستعتبر لها أهمية كبرى في السنوات القليلة القادمة هي مهارات استراتيجية عقلية أكثر من كونها مهارات تكنولوجية، والنجاح في المستقبل لن يعتمد على الذكاء الاصطناعي فقط لأن النجاح يعتمد على التفكير الإبداعي، وبناء علاقات جديدة، والتكيف مع المتغيرات المتسارعة و حل المشاكل، والتطوير الذاتي المستمر، لان العلم أصبح جسرا نحو استقلالية الذات، ومهارة القراءة و التفكير و التساؤل لن تعد ترفا بل هي جزء لتحرير العقل مما لحق به، و العقل الذي لا يقرأ يصدأ و يصدق كل شيء و يسهل التحكم به و يعتبر أرض خصبة للأوهام و سهل التأثير عليه و توجيهه ، و القراءة المطلوبة مثلا هي قراءة للفهم و لبناء أفكار جديدة لأن من يغير الفكرة يغير النتيجة ، و أقتبس ما قاله فولتير عندما سئل من سيقود الجنس البشري مستقبلا أجاب : الذين يعرفون كيف يقرؤون.
وتشير تقارير منتدى الاقتصاد العالمي أن 39% من الوظائف الموجودة حاليا ستختفي بحلول 2030 وستظهر 70 مليون وظيفة جديدة ولهذا أقول كيف نقنع جيل المستقبل بأهمية العلم وأن العلم مفتاح النجاح طالما هناك آلاف الخريجين بتخصصات مختلفة عاطلين عن العمل.
المهارات المطلوبة للمستقبل تتثمل في التفكير الإبداعي، مهارات الاتصال الفعالة، المهارات اللغوية، ومهارات حياتية، ومهارات إدارة المواهب، ومهارات تكنولوجية ومهارة إدارة الوقت والقدرة على التكيف مع المتغيرات، وهذه التوجهات الجديدة تبرز أهمية التحول من التعليم البنكي الذي يقوم على الوعظ والإرشاد والنصح إلى تعليم المهارات المفتوحة والتدريب المستمر.
تعليم المستقبل يحتاج إلى مزج بين الذكاء الاستراتيجي والإنساني أكثر من اعتماد على التكنولوجيا لوحدها، وهنا نحن بحاجة إلى معلم جديد يكتشف مهارة الطالب ويوجهها وينميها ويطورها، معلم محفز لديه رؤية يبني ثقافة الفريق.
إن أعظم هندسة في هذا العصر هي هندسة العقل، وهنا نحتاج إلى التخلي عن بعض الأفكار والعادات وتبني أفكار جديدة ولكن برؤيا واضحة وحكيمة وجريئة، في هذا العصر لم يعد الكتاب ولا المعلم مصادر المعلومة لأن وسائل تلقي المعلومة مفتوحة أمام الجميع، وهنالك مهارات متعددة لا تعلمها المدرسة للطلاب، منها:
تعلم كيف تعتمد على نفسك، إدارة الوقت بفعالية والثقة بالنفس التي تفتح أبواب جديدة أكثر من الشهادات، قراءة أكثر من كتاب، تعلم فن الإصغاء، الأخطاء سيئة إذا لم نتعلم منها:
الفشل أفضل معلم، السيطرة على العواطف والانفعالات، تعلم قول لا بدون الشعور بالذنب، وهنا يقال عاداتك ترسم مستقبلك، و أن البقاء في منطقة الراحة تدمر النمو.
والمدرسة ليست فقط مكان لتلقي المعلومة من المعلم إلى الطالب بل هي مختبر مصغر يتعلم الطالب كيف يسأل كيف يبحث كيف يحلل ويعرض نتائج ويتعلم.
وأقول إن أي توجهات تربوية يجب أن تبدأ بتحديد البوصلة من خلال إعادة تعريف جميع مكونات العملية التعليمية واستبدالها بتعريفات تتلاقى مع العصر ولا بد من:
⦁ الانتقال من تعليم يقوم على التوجيه والنصح إلى التمكين وفتح نوافذ أمام عقل الطالب
⦁ الانتقال من منهج مغلق يعني الكتاب من الألف إلى الياء أو كما يقال من الجلدة للجلدة، إلى مهارات مفتوحة ولا يجوز أن يبقى عقل الطالب حبيس كتاب معين وصف معين وبيئة معينة لأن عقل الطالب أكبر من أن يستوعبه كتاب.
⦁ التخلي عن ثلاثة الحفظ والتلقين والاسترجاع إلى أساليب أكثر تحفيزا ومرونة وتنوعا لأنه لا تعليم مع عقلية القطيع.
⦁ الانتقال من طالب متلقي سلبي إلى طالب شريك في كل الممارسات الصفية.
⦁ الانتقال من تقويم يعتمد على ورقة وقلم إلى بدائل متنوعة للتقويم.
⦁ الانتقال من بيئة تقوم على القهر والشحن والكراهية إلى بيئة جذابة شيقة ممتعة آمنة ديناميكية.
⦁ تبني ثقافة الحوار والتساؤل لأن التعلم يبدأ من السؤال وليس من الجواب.
وأقول يجب على المعلم ألا يعلم الطالب شيئا يستطيع أن يتعلمه لوحده أو يقرأ له شيئا يستطيع أن يقرأه لوحده، لأنه أن تزرع بذور القوة في الطفل أسهل من أن تداوي رجال محطمين مستقبلا، فاليابان مثلا هزمت في الحرب العالمية الثانية وفي أول 50 سنة انتقمت من العالم بالعلم والتقنية والأخلاق وأصبحت رقم 1 في العالم.
ويقول الفيلسوف الألماني نيتشيه: حتى إذا لم يمنحنا المستقبل شيئا باعثا للأمل إلا أن الحقيقة الرائعة أننا نعيش هنا الآن ستمنحنا الشجاعة كي نعيش الحياة ونحدد هدفنا الخاص من غير خضوع للظروف أو انتظار وعود مستقبل، رحم الله الشاعر الذي قال:
مالي أرى التعليم أصبح عاجزا على أن يصح في النفوس مكسرا
وفي السياق الفلسطيني نحن بحاجة إلى بناء نموذج تربوي عصري لأننا نقف في هذا العصر على عتبة باب رداد، إما أن يفتح اتجاهين فالتقدم والتغيير والتفكير والتطوير والنظر للأمور من زوايا مختلفة من خلال عقل ناهض متفتح متحرر أو أن يفتح هذا الباب على مزيد من التخلف والجهل والتعصب والمناطقية، ومعيب على جيلنا ألا نقدم رؤية تربوية واضحة المعالم وتحديد البوصلة التعليمية واستقراء الواقع لمواجهة المستقبل من خلال السؤال: ماذا يعلمون وكيف سيتعلمون؟
وأقول: نحن التربويون المحاورون أصحاب اليقظة أصحاب البوصلة نصنع البوصلة لليوم التالي ولا ننتظرها.
- – : د. فواز عقل – باحث في شؤون التعليم والتعلم