9:18 مساءً / 23 أكتوبر، 2025
آخر الاخبار

شيرين أبو عاقلة.. زيتونة فلسطين التي لا تموت  ، بقلم : معروف الرفاعي

شيرين أبو عاقلة.. زيتونة فلسطين التي لا تموت  ، بقلم : معروف الرفاعي

شيرين أبو عاقلة.. زيتونة فلسطين التي لا تموت  ، بقلم : معروف الرفاعي

في كل خريف، حين يبدأ موسم الزيتون في ربوع فلسطين، وتتعطر الأرض برائحة التراب المبلل بزيت الشجر المبارك، تعود إلينا ذكرى شيرين أبو عاقلة، ابنة القدس، وصوت الحقيقة الذي لم يعرف الخوف يوماً. كانت شيرين واحدة من أبناء هذا الوطن الذين أحبوا الزيتون كما أحبوا الحرية، وشاركوا الفلاحين أفراحهم وأوجاعهم، بين أغصان الزيتون الممتدة من جنين حتى بيت لحم، ومن الجليل حتى غزة المحاصرة.

كانت تحمل الميكروفون كما يحمل الفلاح منجله، تؤمن أن الكلمة كالسلاح، وأن الحقيقة مثل الزيت لا تختفي مهما اشتدت النيران. في كل موسم زيتون، كانت شيرين هناك؛ بين الأمهات اللواتي يلتقطن الحبات الخضراء والداكنة بأيديهن المتعبة، وبين الشبان الذين يحمون أشجارهم من اعتداءات المستوطنين وجنود الاحتلال. لم تكن مجرد مراسلة تنقل الخبر، بل كانت واحدة من أبناء الأرض، تدافع عن الشجر كما تدافع عن البشر، وتغطي بدموعها قبل كاميرتها وجع الفلاح الفلسطيني وهو يرى جنود الاحتلال يقتلعون شجر الزيتون الذي زرعه الآباء منذ مئات السنين.

لكن رصاص الغدر لم يمهلها. في صباح الحادي عشر من أيار عام 2022، كانت شيرين تمارس عملها المقدس، تغطي اقتحام جيش الاحتلال لمخيم جنين. كانت ترتدي خوذتها وسترتها الصحفية الزرقاء التي تحمل كلمة “PRESS”، ظناً منها أن العالم سيحمي من يحمل الحقيقة. لكن الحقيقة في فلسطين كانت دوماً هدفاً للرصاص، فسقطت شيرين برصاصة غادرة في رأسها، لتكتب بدمها أصدق تقرير في تاريخ الصحافة: أن الحقيقة الفلسطينية تُغتال كل يوم، وأن العدالة ما زالت غائبة.

لم يحاسب أحد. أفلت القاتل من العقاب كما أفلت كل مجرم سبقه. صمت العالم، تواطأ البعض، وادّعى آخرون “التحقيق”، وكأن دم شيرين مجرد تفصيل صغير في مشهد الاحتلال الطويل. لكنها لم تمت. لأن من عاش عمره من أجل الحقيقة لا يموت، ومن حمل كاميرته كما تُحمل البندقية، سيبقى خالداً في ذاكرة الأجيال.

شيرين أبو عاقلة لم تكن فقط رمزاً صحفياً، بل كانت شاهداً على وحدة هذا الشعب العظيم بكل مكوناته. كانت مسيحية الإيمان، فلسطينية الانتماء، عربية الوجدان. جسدت شيرين حقيقة أن المسيحيين في فلسطين ليسوا ضيوفاً ولا أقلية، بل هم الجذور الأولى في هذه الأرض المقدسة، الذين حملوا صليبهم وصبرهم ومواقفهم الوطنية مع إخوتهم المسلمين في وجه الاحتلال والظلم. كم من مرة قالت شيرين بصوتها الواثق: “نحن شعب واحد، وقضيتنا واحدة.”

لقد جسدت نضال المسيحي الفلسطيني الذي يرى في الدفاع عن وطنه جزءاً من رسالته الإنسانية والإيمانية. فالمسيحية في فلسطين لم تكن يوماً مجرد طقوس، بل كانت فعلاً مقاوماً، موقفاً أخلاقياً، وشهادة للحق. وشيرين كانت التجسيد الأجمل لهذه الروح: ابنة الناصرة، ابنة القدس، الشهيدة التي اختارت أن تموت واقفة لتبقى شاهدة على كل ما يجري تحت سماء فلسطين.

اليوم، ونحن نحتفل بموسم الزيتون، نستذكر شيرين وهي تجمع الزيتون بيديها في قرى الضفة، تبتسم للفلاحين، وتروي قصصهم على الهواء. نراها في كل حبة زيتون تُعصر في المعاصر القديمة، في كل قطرة زيت تُضيء بيوت الفقراء، في كل طفل يرفع صورة لها في المدرسة ويقول: “شيرين صوتنا”.

لقد رحلت الجسد، لكنها بقيت فينا روحاً وصوتاً وصورة. بقيت كزيتونة لا تحترق، جذورها ضاربة في الأرض، وثمارها تملأ قلوب الفلسطينيين أملاً وصبراً وإصراراً على البقاء.

شيرين، يا زهرة الحقول، يا زيتونة القدس، يا من نقلتِ للعالم وجع الوطن بأمانة وشجاعة، لن ننساك. سيبقى اسمك يتردد في كل موسم زيتون، وستبقى صورتك في عيون كل صحفي حر، وكل فلاح يقطف زيتونه في وجه المستوطنين.
سيحمل أطفال فلسطين ذكراك كما نحمل نحن أغصان الزيتون، رمز السلام والكرامة والصمود.

فأنت لم تكوني مجرد صحفية، بل كنتِ الوطن حين يتكلم.
وسيبقى دمك يلاحق القتلة مهما طال الزمن.
وسيبقى الشعب الذي أحببتِه، المسلم والمسيحي معاً، وفياً لذكراك،
لأنك كنتِ شاهدة على الحقيقة، وشاهدة على أن فلسطين هي الرسالة الأسمى في هذا العالم الظالم.

شاهد أيضاً

أسعار الذهب اليوم

أسعار الذهب اليوم

شفا – جاءت أسعار الذهب اليوم الخميس 23 أكتوبر كالتالي : سعر أونصة الذهب عالمياً …