
بديا .. بلدة الزيتون والمعاصر الحجرية ، بقلم: د. عمر السلخي
على الطريق الواصل بين الساحل الفلسطيني وجبال نابلس، تتربع بلدة بديا شمال غرب محافظة سلفيت، شامخةً على ارتفاع 359 متراً فوق سطح البحر، يحيط بها عبق الزيتون ورائحة التاريخ، وتختزن بين حجارتها القديمة إرثاً حضارياً يعود إلى آلاف السنين.
التسمية.. من “البد” إلى بديا
يرتبط اسم البلدة ارتباطاً وثيقاً بزيتونها الذي يشكّل رمزها الأول، فكلمة “بديا” – بكسر الباء وسكون الدال وفتح الياء – هي تحريف للكلمة الآرامية “بدّة” التي تعني معاصر الزيتون ومنها جاء لفظ “البدّ” الذي يشير إلى الجذع الثقيل المستخدم في عصر الزيتون قديماً، لقد سُمّيت البلدة بهذا الاسم لكثرة أشجار الزيتون فيها، ولانتشار البدود الحجرية التي كانت تُستخدم في استخراج الزيت منذ العصور القديمة، لتبقى بديا مدينة “الذهب الأخضر” الفلسطيني.
الموقع الجغرافي والحدود
تقع بديا إلى الشمال الغربي من مدينة سلفيت، وتبعد عنها نحو 10 كيلومترات هوائية، يحدّها من الشرق قراوة بني حسان وسرطة، ومن الجنوب كفر الديك، ومن الغرب رافات ومسحة وسنيريا والزاوية، ومن الشمال كفر ثلث، موقعها المميز جعلها عقدة وصلٍ بين قرى سلفيت الشرقية وبلدات قلقيلية الغربية، ما منحها مكانة اقتصادية وزراعية بارزة.
المعالم التاريخية في بديا
معاصر الزيتون.. ذاكرة “البدّ الروماني”
تشتهر بديا بمعاصرها القديمة التي تمثل القلب النابض لهويتها الزراعية، من أبرزها معصرة آل عودة التي تعود إلى ثلاثينيات القرن الماضي، وتُعد من أقدم المعاصر التقليدية العاملة حتى اليوم، تُعرف محلياً باسم “البدّ الروماني”، إذ بُنيت على طرازٍ حجري بعقودٍ مقوسة بمساحة تقارب 100 متر مربع، وأضيفت إليها توسعة حديثة. حصلت المعصرة عام 1945–1946 على المركز الأول في مسابقة لأجود إنتاج زيت الزيتون في فلسطين.
بعد إغلاقها بين عامي 1964 و1994، أُعيد تشغيلها من جديد، وتعمل بنظام العجل الحجري “الأسطوانة الحجرية” التي تهرس حبات الزيتون دون تسخين، ما يحافظ على جودة الزيت ونكهته الأصيلة، وفي عام 2008 بدأت بديا تصدير منتوجاتها من الزيت إلى الخارج، خصوصاً إلى ماليزيا، في عبوات متنوعة تُستخدم في الغذاء والدواء ومستحضرات التجميل.
قصر آل طه.. ديوان التاريخ ومضافة الأجيال
على أطراف البلدة القديمة، وعلى الشارع الرئيسي الذي يخترق بديا من الشرق إلى الغرب، يقف قصر آل طه شامخاً كأحد أبرز المعالم التاريخية. بُني القصر عام 1856 على طرازٍ عثماني من طابقين بمساحة إجمالية تبلغ 306 أمتار مربعة، تتوسطه ساحة داخلية بمساحة 25 متراً مربعاً، تحيط بها الفتحات والزخارف الحجرية.
كان القصر في زمنه ديواناً ومضافةً يجتمع فيها وجهاء البلدة وأهلها، وشهد العديد من الأحداث التاريخية المهمة.
تم ترميم المبنى عام 2011 على يد مركز المعمار الشعبي (رواق) بتمويل من الوكالة السويدية للتنمية الدولية (سيدا)، وأصبح مقراً لجمعية “نساء من أجل الحياة”، ما أضفى على القصر حياة جديدة تجمع بين الأصالة والحداثة.
المقامات الدينية.. شواهد روحانية في قلب البلدة
مقام الشيخ علي الدجاني
يقع المقام في وسط البلدة بالقرب من المسجد القديم، ويُنسب إلى الشيخ علي الدجاني أحد رجال القرن العاشر الهجري، وينتمي إلى عائلة الدجاني المقدسية المعروفة بعلمائها وقضاتها، يتكوّن المقام من ثلاث غرف متلاصقة تتوسطها ساحة سماوية مكشوفة، وتعلو القاعة الرئيسية عقود حجرية متقاطعة تؤدي إلى غرفة الضريح المغطاة بقبة خضراء نصف دائرية، يرجّح أن المقام يعود إلى الفترة العثمانية، إذ يتطابق طرازه المعماري مع مقامات تلك الحقبة.
ورغم ما أصابه من إهمالٍ وتصدعات، ما يزال شاهداً على عمق الروح الصوفية في تاريخ بديا.
مقام الشيخ حمدان
يقع هذا المقام في الجهة الجنوبية من البلدة، تحت شجرة بلوط ضخمة يتبرك بها الأهالي، حيث اعتاد النساء عقد المناديل البيضاء على أغصانها طلباً للبركة، يتألف الموقع من ثلاثة قبور حجرية متشابهة، أطولها – بطول 2.40 متر – يُعتقد أنه قبر الشيخ حمدان، الذي عُرف بالتقوى والورع، يتشابه هذا المقام من حيث الطابع والموقع مع مقاماتٍ أخرى في القرى المجاورة مثل الشيخ قاسم في الزاوية، ما يعكس وحدة الموروث الروحي في منطقة سلفيت.
الاستيطان في بديا.. جرحٌ مفتوح على أطراف الزيتون
لم تسلم بديا من مخالب الاستيطان الإسرائيلي الذي يزحف نحو أراضيها منذ ثمانينيات القرن الماضي، إذ صودرت مساحات واسعة من أراضيها لإقامة البؤر الاستيطانية في الراس شمال وفي المنطقة الجنوبية، ما أدى إلى خنق البلدة عمرانياً وزراعياً، تخترقها شبكة من الطرق الالتفافية التي تعزلها عن جاراتها الزاوية ومسحة وكفر الديك، وتحرم المزارعين من الوصول إلى مئات الدونمات المزروعة بالزيتون، كما يواجه الأهالي انتهاكات متكررة من قبل المستوطنين الذين يستهدفون أشجار الزيتون بالاقتلاع والحرق خلال مواسم القطاف.
ورغم القيود المفروضة على التوسع العمراني في المناطق المصنفة “ج”، لا تزال بديا تقاوم بسيقان زيتونها التي تمتد في عمق التاريخ، شاهدةً على صمود الإنسان الفلسطيني في وجه آلة الاستيطان التي تحاول اقتلاع جذوره من الأرض.
بديا.. بلدة الزيتون التي لا تنضب
من جذوع البدّ القديمة إلى قباب المقامات، ومن قصور الحجر إلى معاصر العطاء، تظل بديا بلدةً تتنفس زيت الزيتون وتروي ذاكرة الأرض الفلسطينية، هي البلدة التي ما زال فيها العجل الحجري يدور كما دارت عجلات التاريخ، تروي حكاية الإنسان الفلسطيني الصامد الذي يعصر من صخر أرضه زيت الكرامة والحياة.

