
تأملات ( ظلالٌ لا تُشبهني ) للشاعرة سعاد بسناسي ، الجزائر ، من التشابه إلى التجلي، رحلة الذات في مرآة الشعر ، بقلم : الروائي علي حسين زينل
في بداية الأمر على الباحث قبل الشروع بالدخول إلى أيِّ مجال من مجالات الأدب والمعرفة ، سواءً أكان نثرًا أم شعرًا وذلك لغرض الدراسة أو التحليل، أو إبداء الرأي ، أو حتى وجهة نظر محدَّدة، عليه التركيز على أمرين أساسيين: أوَّلهما إلقاء نظرة شاملة على مفاصل النصِّ المتاح ، لأنَّ إيجاد المنافذ الملائمة يعتمد في الأساس على تلك النظرة العامَّة ، أو بتعبير أدقّ أنَّ ايَّة محاولة لإيجاد نقاط الارتكاز يستدعي الإمعان في الأرضية ، وثانيهما اختيار زاوية نظر ملائمة للشروع بالعمل، والتي تُعدُّ مفتاحًا ملائمًا للخوض في تحليل أو إبداء الرأي في أيِّ نصٍّ أدبي دراسة وافية ودقيقة .
لذا وعلى هذا الأساس ومن منطلق الفكرة ذاتها، رصدتُ لنفسي زاوية فيها الكثير من الحصانة والمناعة، وبكافة أشكالها وأنماطها وطرقها، واتَّخذتُ منها نقطة انطلاق جوهرية لتكوين الرأي وبشكل واثقٍ وسديد إزاء الموضوع قيد البحث . ربَّما لأنَّ الخوض في تجارب الآخرين والانخراط فيها يتطلَّب الكثير من الحذر والإلمام والتقصِّي للإحاطةِ بها إحاطةً كاملة، وبما يُحقِّق الغاية المرجوَّة من ذلك ، وأمانةَ الحفاظ وبشكلٍ منصف على مكنونات تلك التجربة قبل اتِّخاذ أيَّة خطوة مُزمعة .
فضلاً عن ذلك فإنَّ اختياري لتلك الزاوية جاء كونها كانت زاوية حاكمة تمامًا على المشهد النصي الظاهر للعقل الواعي، وللحواس الباطنية في آن واحد، بعيدًا عن أيِّ ميلٍ أو تعاطفٍ غير واقعي، كما يحدث لدى البعض إزاء مواقف معيَّنة . ومن ثمّ فأنَّ اختيار زاوية الرصد له درجة كبيرة من الأهمية للتعرُّف على مجمل التكوينات النصية للبناء الشعري للقصيدة المعنيَّة ، وعدم إغفال أو نسيان أيَّة جزئية يحول دون تحقيق الغاية الأساس ..
كان المشهد الدرامي المتمثِّل بقصائد الديوان ( ظلال لا تٌشبهني ) الذي برز لديَّ بعد قراءتي له كتحفٍ فنيَّةٍ . إنَّ الديوان جديرٌ بالاهتمام والتقييم والدراسة بما فيه من قوَّة الإيحاء ، وكثافة الحضور.. ورمزية التعبير ، إذ يتضمَّن الكثير من الدلالات العميقة والثرَّة . كانت تلك القصائد على وجه الخصوص تمتاز ببلاغة لغوية عالية، ومتانة البناء، وعمق في المعنى ، إنَّها عمل شعري بامتياز تتمتع باستشعار باطني يتوغل إلى أغوار النفس البشرية لاستنباط الحقائق الكامنة منها .
إنَّ ديوان (ظلال لا تُشبِهني) يفرض نفسه على القارئ بما يتَّصف ببناء رصين ومُحكم، يتجلَّى ذلك في احتواء المعنى وطرحه بشكلِ ليس فيه من الضبابية أو التباس، وعدم التحليق بالخيال عاليًا أكثر ممَّا يجب، وإلى الحدِّ الذي لا يُرى معه أيَّة صورة شعرية واضحة المعالم، ولا يُفهم ذلك حتى من قِبل المؤلف ذاته، كما يحدث لدى البعض من الشعراء يتخيَّلون بلا واقعية ، واهمُّ ما ظهر لي نتيجة البحث كان أمرًا جليًا تمثَّلَ بقوَّة الجاذبية التي لا بدَّ وأنْ تسحب القارئ إلى ميدان الأحاسيس الحامية ..
إنه ديوان الشعر الذي انبثق كالشهاب يتلألأ من سماء أقصى المغرب العربي، وبالتحديد من أرض الجزائر الحبيبة_ جامعة وهران …
الديوان من تأليف الشاعرة ( البروفيسور دكتورة سعاد بسناسي ) ، تحت مسمى ( ظلال لا تُشِهُني ) ،وإنِّي لستُ ابالغ بهذا الصدد إذا ما قلتُ أنَّه ديوان يمتاز بالفصاحة اللغوية ، ممَا راق لي كثيرًا بهمساته الشعرية التي بلغني عبر الأثير رقيقة مؤثرة تلامس وتر الوجدان، وتجلَّى الديوان أعلاه بأبهى صور التمثيل الواقعي، والتمثُّل العاطفي العذب، وبدلالات مختلفة وعميقة تلاحق بطريقة صوفية المكامنَ الخفيَّة للذات البشرية .
كانت البوابة المزخرفة لعتبة العنوان مثيرةً للدهشة والاندفاع ، ومِن ثمَّ الوقوف بحماس نتيجة التأثر عند تجلِّيات العنوان بوصفها دلالة عدم تشابه الظلال لمصادرها الأساس، وهذا الأمر هو الذي جعلني أتوقَّف عنده لأدرك دقَّة العنوان على ضوء اختلاف الظلال، وتباينها في التمثيل والتطابق على حدٍّ سواء، وذلك وفقًا للعوامل المؤثرة في الأشكال والصور التمثُّلات ، والناجمة عن طبيعة النور المنبعث، وزاوية مساقطه الضوئية .
بالمناسبة فإنَّ استحالة التشابه أو عدم التطابق يُعَدُّ إفضاءً نوعيًا إلى الجمال الطبيعي، وإثراءً للذائقة السليمة ، وامتدادًا للانهائية البعد الشعاعي للذات الفاعلة ..
وفي مستهل بحثي في تُحف “ظلال لا تُشبهني” وفي لحظة تصفُّح الديوان أرهفتُ السمع، فكان ثمَّة هتافٌ منبعثٌ من بين الاسطر يستدعي التنصت والإذعان وفتح مغاليق الشعور .
كان ذلك الهتاف نابعًا من خلجات الذات إذ يبوح بالأسرار والأغوار ويعلن عن المعاني المنسيَّة ، ويبعث على السكنية والاطمئنان، واللهفة للذَّة الاستماع ، لقد كان ذلك بدايةً موفقة وانسجامًا مع تطلعاتي . أو ليست البدايات هي من أهم المفاتيح التي تحتاجها عملية الشروع ؟
إنَّ مهمَّة تشييد البناء الشعري بشكلٍ رصين وراسخ تستلزم الصبر والـتأنِّي وبُعدَ النظر ، وكما تقول الشاعرة سعاد في ديوانها الصرح : ” ….وما الطُهرُ إلَّا صبرٌ …….” ناهيك عن الألم الدفين الذي يحفظ الذكريات كالذي نوَّهتْ له تلك الأبيات المشعَّة من الديوان ، وأنَّ ثمَّة تساؤلًا كبيرًا، وتحدِّيًا منطقيًّا واضحًا لمتابعة النور الذي يتوهج في الأعماق حسب قولها : ” أأٌطفئ نوري لأُرضي جهلَ مَنْ ظلموا ؟؟”
ثمَّ تستمر الأبيات في السمو كالفراشات الولٍهة صوب مصدر النور لتعثر على قبسٍ مشعٍّ من بؤرة الروح ، في الوقت الذي يبدأ الضوء يميل إلى جدار الصمت، وخلف الظلال ليصافح الشاعرة ، وهي التي في ذاتها لمْ تعد تنتظر شيئًا ….! كما تقول :
“……… وكأنَّني كنتُ فيَّ…. ” . ويا لها من جملة رائعة تتضمَّن استبطانًا داخليًا باهرًا للقارئ !! .
لهذا قد يكون هناك أشياءٌ جميلةٌ بحد ذاتها، ولكنَّها تغدو أجمل وأبهى حينما يكسوها الضياء . إنِّي أعتقد أنَّ الديوان اعلاه يستند على النظرة الصوفية نوعًا ما في تشخيص الحالة، وعلى فكرة أنَّ الحقائق تنبع من ذات الألم .
إنَّ “الخطى التي تحمل صمتًا لا يفهمه إلَّا منْ سمع الآهات ” وهذا الجرج النائم حين استيقظ على صوت قصيدة لم تكتبُ بعدُ ، نجد هنا بين طيّات هذه القصيدة العصماء تجسيدًا رائعًا لعلاقة طردية بين الألم والوجود . وعلى أنْ لا يخشى المرء إذا سار وحيدًا في الأرض اليباب طالما هناك نور يسبق الخطواتِ . فكمْ من زحام أضاع الأسماء والذوات معًا !! وكمْ من وحيد وجد له بين الشوك طريقًا للنجاة ! وكأنَّما كانت الشاعرة تخاطب ذاتها أو ذاتًا أُخرى ، بأن لا تبالِ ايها المرء للزِّحام طالما ثمَّة مَنْ يحميك من الضياع ، ولا تجزع من العتمة لأنَّ حرفك المكتوب بصدقٍ له جناح يحلِّق إلى ما تشبهك من بُؤَر الضياء ، فلِمَ الخشية إذن يا ترى ؟ إنَّه سؤال وجوديٌّ محض يضع الإنسان على المحك إزاء المشقَّات .
ولا ننسى أنَّ أبيات القصيدة في جانب آخر تتضمَّن تشبيهات رائعة من ألفاظ مبنية بإحكام، وصور قد اُختيرت بإتقان لتعزِّز من مقاربة المعاني وتوضيح الأبعاد . كما نري في قول الشاعرة سعاد بسناسي :
” في قصصك ترقد سرائر المجد ، ومن صوتك يتدفق نهر الطيب .” وهناك تشبيه رائع آخر : ” يا نجمة تساقط في فجرك … قصيدة العشق الأبدي “
وفي موضوع آخر نرى من الضروري الانعزال عن العالم الخارجي لبرهة من الزمن، وذلك لبلوغ الاستبطان الداخلي المطلوب، ومن أجل تأليف نص فنِّي أخَّاذ يتمتَّع بجمالية روحية عالية ، والذي يأتي إلى العالم نتيجة استلال تلك النفحات الكامنة في أغوار النفس بجهد عالٍ لكونها إشارات غير قابلة للإظهار بيُسر ، ولا يحدث ذلك من دون التماهي التام مع خلجات الذات المتألمة . فالألم مصدر آخر لإلهام عظيم في الوجود .
فالعزلة هذه تذهب بنا إلى الحكاية التي تقول : ” إذا فُقِأتْ عيون البلابل غرَّدتْ أجمل ” وعلى هذا الأساس تفسَّر اغماض العين في عزِّ الإحساس، على أنَّه عزلة محدَّدة عن العالم الخارجي كي يُبصر المرء ما لمْ يُبصرْه بالنظر ، فوجدتُ ضمن العناوين الثانوية للديوان ظلال لا تُشبهني ” اغمضْ بصرك لترى” توافقٌ تام مع ما ذكرتُ من وجهة النظر .
وكما ورد بين طيًات القصائد من صدق بما يُعزِّز ما كُتب ” فكلُّ بابٍ يُطرق بصدقٍ ، يُفتح على ظنٍّ ، لا على يقين… ” و” ويعتلي على استحياءٍ في محراب بناه من أوجاعه، ولمْ يدْخله أحدٌ إلَّا السماء ” . وكذلك ما توحي لها تلك الكلمات الرائعة من شعرية فائقة :
” …الكلماتُ نقوش على ماء الغربة، لا تُقرأ إلَّا إذا أغمضتَ السمع والبصرَ ..”؟
والآن أصبح جليًّا لديَّ أنَّ النصوص الشعرية في الديوان أعلاه تبحث بخطىً حثيثة عن الذات ومكنوناتها الخفيَّة ، لا بل حتى الصخور التي بدت تحمل ذكريات العشَّاق كما نوهت اليها الشاعرة المتمكنة بقولها : “… كلَّما خفَتَ ضوء الطريق ، اقتربتَ من الأصل … واتَّسع المكان لمنْ ضاقت به الوجود “
لاحظتُ أنَّ في السطور وما بينها من معانٍ تُشعرك بوصفك قارئًا بسرٍّ لمْ يُتحْ لعابر سبيل، إنَّما أُتيح لمنْ يلاحق ظلمات النفس لاقتناص قبس النور الخفيِّ ذاك ، وسره الدفين من مكامن الذات . فليس بالإمكان أنْ تُبصر شيئًا من شدَّة الضياء ، وكما يُقال بأنَّنا لا يمكننا أنْ نبصرَ في الضياء الباهر كما نشاء .
إذن أليس صحيحًا أنْ لا يَرى العشَّاقُ ذاتهم من فرط الإبهار ؟؟ دعْ يقينَك يسطعُ شعاعًا من لُجَّة الذات . وما من سهلِ أتى إلَّا وذهب كالزَبَد جفاءً ..
وفي النهاية لا يسعني إلَّا أنْ أقول: إنَّ الديوان أعلاه قد أَعلن عن مكنوناتٍ ثرية برمزية عالية، يخاطب بها الآخرين بقصائد عصماء ، تمتاز بلغة وجدانية شيِّقة ووافية .
- – الروائي علي حسين زينل – نينوى – العراق