
كوزيت ، غزة..تتمنى الموت ، بقلم : بديعة النعيمي
إنها ليست “كوزيت” بطلة رواية البؤساء المتخيلة للكاتب “فكتور هوجو”، التي وظفها كرمز لظلم اجتماعي قبل أكثر من قرن، حيث كانت تخرج ليلا إلى الغابة في برد الشتاء القاسي، تحمل دلوا أثقل منها، ترتجف بين الأشجار بردا وخوفا وذعرا. لكنها طفلة غزة التي تسير بقدميها العاريتين تحمل جالونات الماء الثقيلة لمسافات طويلة في شوارع غزة المجرفة وبين ركام المنازل، لا في غابة “هوجو” المتخيلة. إنها “كوزيت” غزة التي تفتقر إلى “جانفالجان” منقذا لها.
“كوزيت” غزة، حين سألها الصحفي، ما بك يا عمو، كانت إجابتها صادمة، فاللغة لا تشبه لغة الأطفال، لأن تلك لغة نسيها أطفال غزة، بدت كلماتها منهكة وموجعة كشفت حجم ما فرضته الحرب عليها من ثقل نفسي وجسدي، عبارتها القصيرة اختصرت عامين ويزيد من المعاناة وعبرت عن تعب تجاوز احتمالها، “بدي أموت”، نعم لقد قالت هذه العبارة وهي تبتسم، إنها يا سادة انطفاء الرغبة في الحياة بكامل تجلياتها، وهذا أخطر ما في الحرب، حين يتغلغل هاجس الموت في وجدان الطفل.
“كوزيت” ” التي جسدها “هوجو” في روايته كانت ضحية نظام ظالم، ولكن في النهاية جاء “جانفالجان” و أنقذها، وأعاد لها طفولتها وإنسانيتها، أما كوزيت غزة من الذي سيأتي لإنقاذها، من يوقف القصف؟ من يوقف هذا الحصار؟ من يعيد لها بيتها وكتبها ومدرستها؟ بل من يزيح عنها آثار تعب حمل الجالون الثقيل الذي أنهك نفسيتها قبل جسدها؟. لا أحد.
والماء الذي كان رمزا للقهر في “كوزيت” “هوجو”، ينقلب دليلا على جريمة مستمرة تمارس بقرارات لاأخلاقية سياسية وعسكرية في واقع “كوزيت” غزة. والفرق بين بؤس وعذابات الأولى والثانية أن الأولى جسدت إدانة أخلاقية لعصر مضى، أما الثانية فيجسد بؤسها إدانة حية لعصر يدعي التحضر وحقوق الإنسان في القرن الواحد والعشرين، ويخرس أمام طفولة تداس بسياسة الاحتلال الظالمة كل يوم.
ومن هنا تصبح “كوزيت” غزة هي الصورة التي تجسد لواقع أطفال حقيقيين لا متخيلين يمشون بين سطور الرواية، أطقال أفقدتهم الحرب أحلامهم البسيطة، وسرقت منهم الإحساس بأن الحياة مساحة للفرح لا للألم، لحمل الدمى وحقائب المدرسة لا حمل جالونات أثقل من أجسادهم. فتتحول الطفولة إلى سؤال وجودي ينفتح على الألم، حيث يدفع طفل غزة إلى مواجهة ثقل العالم قبل أن يتعلم خفة اللعب. فالحرب تعيد تشكيل وعي الطفل، فتسرق لغته البريئة وتمنحه بدلا منها كلمات منهكة لا تشبه عمره. فهو عندما يقول إنه يريد الموت، إنما يعلن عجزه عن احتمال حياة ليست على مقاس عمره. وهنا يسقط العالم الذي يكتفي بالمشاهدة والمتابعة ثم الإدانة في وحل التواطؤ والمشاركة في الجريمة، أما جالون “كوزيت” غزة فيبقى بصقة على جبين هذا العالم.
شبكة فلسطين للأنباء – شفا الشبكة الفلسطينية الاخبارية | وكالة شفا | شبكة فلسطين للأنباء شفا | شبكة أنباء فلسطينية مستقلة | من قلب الحدث ننقل لكم الحدث .