
شباب اليوم : أفق الوجود ورهان الحرية المتجدد ، بقلم: ثروت زيد الكيلاني
في زمن تتسارع فيه التحولات وتتعقد فيه التحديات، يقف الشباب كالجسر الحي بين حاضر يعاني وأفق يشرق بالأمل.
ليسوا مجرد أرقام عابرة في محيط الزمن، بل هم الجرح المفتوح في نسيج الوجود، الصرخة المتعالية على صمت الاستسلام، والنار التي تشتعل في ظلمة القلب لتوقظ الروح من سباتها العميق. هم الذات المتمردة التي ترفض أن تُقيّد بإرث الخضوع، فتنهض من رماد القيود شعلة لا تنطفئ، تتسلل إلى أعماق الأزمنة المظلمة حيث لا يصل إلا الحالمون بخلاص الوجود. في هذا الفضاء المشحون، ينفجر الفكر كفعل ثوري نابض، يحطم أسوار الأوهام التي استوطنت العقول، ويعيد رسم خطوط الكينونة الحقة، حيث لا مكان للعبودية ولا لاستكانة الضعفاء.
هذه الذات ليست كياناً منقسماً بين إرادة الحرية والجمود، بل هي تجربة وجودية تتعانق فيها اللحظة مع اللامحدود، تتجاوز فيها حدود الزمان والمكان، لتشكل إرادة مستمرة تتحدى القهر، وتنسج من خيوط الألم والاحتقان نسيجاً جديداً للحياة، ينبض بالحرية والعزم على التغيير والتجديد.
فالاجتماع الإنساني لا يرتكز على تجمع شكلي أو مصالح عابرة، بل هو انسجام يتجذر في وحدة المصالح الواعية، حيث تتحول الذات الفردية إلى قوة كلية متجددة. فالمصالح المشتركة ليست ثمرات لحظية، بل هي انعكاس حقيقي لعمق الوعي الجمعي، الذي يستمد طاقته من تماسك الذات، ومن ثباتها ومثابرتها على فهم الواقع والتفاعل معه في فضاء التغيير. في هذا الإطار، تصبح الذات الواعية لبنة لا تهتز، وقوة لا تنكسر، تعيد تشكيل البنى الاجتماعية من أعماقها، فتتحول الصرخة الفردية إلى لحن جماعي يعيد صياغة معنى الحرية والوجود.
وحين يشتعل الوجدان ويثور القلب، تتعالى أصداء الروح، تعزف سيمفونية التحرر بلا صوت مسموع، لغة تتجاوز حواجز الكلمات، لتصبح نبضاً حياً يشق ظلمات اللامحدود، لا يكتفي بصدى السطح، بل يعلن ولادة أزمنة الحرية التي لا تحتمل الركود أو الانكسار.
ومع هذا الوضوح والاشتباك الوجودي، تبرز تساؤلات مركزية تُوجّهها هذه القراءة: كيف يعيد الشباب صياغة الوعي، ويبدعون صروح التغيير، وليسوغوا تحطيم قيود الاستلاب التي تعيقهم؟ كيف يتحول هذا الوعي إلى مشروع وجودي، وطني وعالمي؟ وما هي أدوارهم كمحرّك للتنمية والوعي البنائي في مواجهة ثقافة القهر وآليات الاستلاب الجديدة؟
أولاً: الانعتاق كفعل وجودي لا مجرد مطلب سياسي
الانعتاق لدى الشباب ليس صيحة ضائعة في فضاء عابر، بل تجلٍّ عميق لفعل الوجود ذاته، حيث يتحرر الإنسان من سجون الرقاب المعلنة والمخفيّة. هو اللقاء مع الذات الحقيقية، التي تنشطر مراياها لترى نفسها حرة، مفككة لنظام الهيمنة الثقافي والسياسي الذي أسس لإعدام الإرادة. التحرر هنا ليس استجلاب حقوق، بل اكتشاف لفضاء الوجود اللامحدود، حيث الكينونة فعل دائم من السيادة والتمرد.
الشباب ليسوا مجرد أفراد يبحثون عن حقوق شخصية، بل هم نواة المجتمع الواعي الذي يُدرك أن التحرر الحقيقي لا يتحقق إلا عبر فهم جماعي لمسؤولياتهم تجاه الخير المشترك. فكل فرد منهم يعي موقعه ودوره في صياغة مستقبل ينهض به الجميع، ويعيد بناء ذات لا تكتفي بالمطالب، بل تمارس الحرية كواجب مستمر، تتداخل فيه المسؤولية مع الإرادة لتشكيل إنسان جديد يتجاوز حدود الذات التقليدية، يملك القدرة على صناعة تاريخه وتحدي واقعه بكل قوة وعزم.
ثانياً: الشباب: نواة الوعي البنائي ومحرك التغيير الحضاري
الشباب هم العقل المتقد في المشهد الإنساني، ليسوا مجرد متلقين، بل مبتكرين ينحتون في صخور الواقع، يزرعون بذور أمل تنمو في تربة الوعي والكرامة. التنمية التي ينشدونها ليست توزيع ثروات معدودة، بل ثورة في القيم، تحطم أنماط الفساد وتجدد الاعتبار للإنسان كمحور لكل مشروع تنموي. يرسلون صرخات التغيير عبر أزمنة الاحتضار، ويشيدون صمتهم صروح الفكر والإبداع التي تهزّ قواعد الواقع الميت.
تتحول التنمية الحقيقية حينما يُشرق نور العقل في ظلمات الجهل، فكلما تعمق التفكير وارتقى الوعي، ارتقى الإنسان وتحرر من قيود الجهل والتبعية. في هذا الإطار، لا تكون التنمية مجرد توزيع للموارد أو تحسينات سطحية، بل تصبح حركة فكرية وجودية، ينبثق منها فعل شبابي قادر على اختراق الظلال الثقيلة التي تخنق الحرية. هذا الفعل يتجلى في ممارسة الفكر النقدي الحر، الذي لا يقيد العقل، بل يُحرره، ليكون رافعةً للتغيير الجذري والبناء الواعي لمستقبل يُعيد للإنسان مكانته الحقيقية كفاعل ومالك لمصيره.
ثالثاً: التحديات بين ثقافة القهر وآليات الاستلاب الجديدة
تخوض الذات الشبابية معارك أعمق من جدران السجن المادية، معارك في مخيال الحرية وميدان الوعي. صراع كسر الأسوار التي يشيّدها الاستلاب في أذهانهم، حيث تتصارع صورة الذات الحقيقية مع المجهول الثقافي والسياسي والاقتصادي. هذا الصراع يقف الشباب عند مفترق وجودي، بين الهروب إلى التوهم أو المواجهة الجريئة التي تعيد بناء الوعي وتشكل الذات حرة.
يكمن التحدي الوجودي في قدرة الشباب على امتلاك إرادة تُوقظ عمق ذاتهم، فتختار دروب المعرفة والتعب الواعي، مستثمرة في ذلك ثورة التقنية التي لا تقف عند حدود الآلة، بل تمتد لتشكل فضاءً جديداً من الإمكانات اللامحدودة للتحرر والتنمية. فاللحظة التي تصبح فيها التكنولوجيا مجرد أداة تُخضع العقل للاستلاب الرقمي والتسطيح اللحظي، تفقد الإنسان حريته وتبدد فرصه في خلق معنى يتجاوز مجرد التفاعل السطحي مع العالم. هنا، يتحول الوعي الواعي إلى فاعل فلسفي يحاور ويعيد تشكيل العلاقة مع التكنولوجيا، فبدلاً من أن تكون قيداً أو ملهاة، تصبح جسراً يعبر به الإنسان نحو آفاق أرحب من الإدراك والحرية والإبداع.
هذا الفعل التحرري لا يعني رفض الحاضر أو المستقبل، بل استدعاء حكمة اليقظة التي ترفض الركون للجمود أو الاستكانة، وتواجه موروثات القهر والهيمنة عبر تفكيكها، وكشف زيف التقدم الذي يُباع أحياناً بثمن التفريط في الذات.
إنه فعل إعادة بناء الذات ككيان متحرر، واعٍ، يملك زمام وجوده في عالم يتشابك فيه الرقمي مع الوجودي، ويعيد تعريف الحرية والتنمية عبر وعي متجدد يثمن أدوات العصر ويجعلها في خدمة الإنسان لا العكس.
رابعاً: نحو مشروع وجودي شامل: من الذات الوطنية إلى الوعي العالمي
لا بد من تحويل الشعارات إلى أفعال حقيقية، وإنجاز مشروع وجودي يمكّن الشباب من السيطرة على مصيرهم، ويزوّدهم بأدوات الفعل النقدي والقيادة الحقيقية. مشروع يتجاوز الحدود الوطنية إلى فضاءات عالمية تحترم التعددية وتُعلي قيم الحرية والعدالة، حيث يصبح الشباب شركاء في صناعة القرار، لا مجرد متلقين.
تُبنى الأمم على ركيزتين أساسيتين: العلم كمنهج ينير دروب المعرفة، والتعاون كنسيج يربط بين الأفراد في رؤية مشتركة تتجاوز الذات لتُشكّل كياناً واعياً ومتجدداً. حين تغيب هذه السواعد التي تحمل ثقل الوعي والالتزام، لا تهتز فقط أسس الوطن، بل يغيب معنى الوجود الجمعي، وتُفقد الأمة هويتها في دوامة الفوضى والفرقة. وفي قلب هذا البناء الحيوي، يشكل الشباب العنصر الحيوي والفاعل الذي يُرتهن إليه استمرار الحياة وترسيخ قيم الحرية والعدالة، فهم النقطة التي يلتقي عندها الماضي بالمستقبل، والذات بالكل، والحلم بالواقع.
لكن هذه الشراكة الحقيقية لا تتحقق إلا عبر تحرير الفكر من قيود الهيمنة التي تزرع التبعية وتكبل الإرادة، فتُقمع المبادرة وتُجهض حرية الإبداع. يتطلب ذلك إعادة صياغة العلاقة بين الفرد والمجتمع، بحيث تُفتح أمام الشباب آفاقٌ فكرية وسياسية لا تُقيدها حدود الاستسلام أو الوهم، بل تمكّنهم من استعادة كرامتهم وحقهم في الفعل والتأثير. هنا، لا تكون الحرية مجرد شعار يُرفع، بل فعل جوهري يُمارس في لحظة الوعي، ويُجسد في بناء وجود يُعبر عن ذات حرة لا تُباع ولا تُشترى، وتتحول إلى قوة فعلية تُعيد تشكيل التاريخ وتعيد رسم خريطة المستقبل، على أسس الحرية والعدالة والتنمية المستدامة.
ختاماً، ونحو فجر جديد، وفي يوم الشباب، لا نحتفي بزمن العمر، بل بولادة الوعي الذي يتجاوز حدوده الضيقة، ويعيد تعريف الإنسان ككائن يختار مصيره ويصنع تاريخه. إنهم الفجر المنبثق من رحم المعاناة، والنار التي تضيء عتمات القرون، يحملون في صدورهم خرائط لعوالم لم تُكتشف بعد، ويغرسون في تراب الحياة بذور المعنى في كل نبضة، وكل فعل مقاوم، وكل حلم يأبى الموت.
فالإنسان، كما تهمس حكم الأزمنة، لا يُعرف إلا بما يختار أن يكونه، وبالفعل تكتمل كمالاته ويتحرر من قيوده. فلنجعل الشباب مرآة إنسانيتنا الحية، والنبض الذي لا ينقطع، والفعل الذي يكتب على جدران الغد ميثاق الحرية. ومع كل خطوة واعية، تتفتح أبواب الحضارات القادمة، ويتوهج فجر لا يغيب، حيث يلتقي الحلم بالفعل، ويصير الوجود قصيدة مكتملة المعنى.
فالحُرية وعي، والمعرفة جناح، والعدالة قلب، والتغيير قدر من يجرؤ على أن يحلم ويصنع تاريخه بيده.