
بكائيات غزة ، في جوف الألم حيث تتكسر الكلمات ، نقد بكائيات غزة للدكتورة ميسون حنا ، بقلم : الصحفي نضال الخليل
أن تقرأ هذا الكتاب لا يعني أن تلتقط صفحات تقرأها عابرة بل أن تغوص في فجوة زمنية لا تنضب حيث تتشابك حياة وموت وحيث يصبح الجرح المستحيل حكاية وجودية ترفض الاختزال.
هنا لا تمضي الكاتبة في رص الصفوف أو التماهي مع الخطابات الجامدة بل تسير على حافة الانهيار حيث تُذوب الحدود بين الشهادة والألم بين القول والصمت.
الكتابة في هذا السياق ليست فعلًا جماليًا بل هي منفى وروح ترفض الاستسلام للفراغ فاللغة تلك الأداة التي تسعى دومًا للتقنين هنا تتهدم أمام التجربة اللامتناهية للحزن فتتحول إلى حاضنة للتمزق إلى جسد ينطق بكسر لا ينغلق.
إنه المأزق الأزلي للكتابة عن الموت:
كيف تُسجل الحضور حين تكون كل الكلمات خجولة؟
كيف تُعبّر عن الألم الذي لا يحتمل، عن فقدانٍ يحطم منطق الوجود؟
في هذا الكتاب تنزع الكاتبة كل قناع لتكشف أن الموت لا يكتفي بالجسد فقط بل يمزق ذاكرة الإنسان ويهدد أركان الوجود نفسه.
وهنا يكمن الجمال القاتل:
التكرار المقصود للكلمات مثل الخبز والماء التي هي في ذاتها رموز للبقاء تتحول إلى رموز للموت والحياة في آنٍ معًا.
هذه الكلمات ليست مجرد دلالات لغوية بل هي فلسفة صغيرة عن الوجود المضاعف أن يمضي الإنسان وسط الدمار ولا زال يحن إلى الفعل الحي، إلى تفاصيل الحياة التي ما زالت تتمسك بالبقاء رغم كل شيء.
وفي نصوص العيد تتحول الطقوس الجماعية إلى مساحة مهددة حيث يصبح الفرح جنازة معلقة على جدار الغياب.
وهذا هو السؤال الذي يطرح نفسه في صمت:
كيف يستمر الإنسان في الاحتفال حين يكون العالم كله قاب قوسين من الانطفاء؟
هل الاحتفال هو مقاومة؟
أم هو اعتراف مرير بالعجز؟
في هذا الكتاب تتراقص الذاكرة كظلٍ لا ينفك يلاحق الحاضر كأنه نهرٌ من صور وأصوات لا ينضب.
الذاكرة ليست هنا مجرد استدعاء للأحداث بل هي فعل مقاومة ضد النسيان ضد انزياح الحقيقة إلى العدم هي تحوّل الألم من جرح خاص إلى وجع جماعي، صرخة أزلية ترفض أن تُدفن في غياهب التاريخ.
والزمن في هذا السياق لا يسير في خط مستقيم بل يتفتت يتحلل إلى لحظات متشظية تتراكب فوق بعضها حيث تتعايش لحظة الموت ولحظة الحياة، لحظة الفقد ولحظة الانتظار، لحظة الصراخ ولحظة الصمت.
هو زمنٌ مكانيّ حيث الحاضر يتداخل مع الماضي الذي لا يموت والمستقبل الذي لا يأتِ بهذا المعنى تصبح لحظة القراءة فعلًا يخلخل ثوابت الزمن يربط بين ما كان وما هو كائن وما قد يكون.
أما الفرد فهو في قلب المأساة الجمعية تلك النقطة الصغيرة التي تكافح من أجل أن تحتفظ بإنسانيتها وسط انهيار الوجود الفرد هنا ليس مجرد رقم أو إحصائية بل هو حكاية تُروى من خلال تفاصيل صغيرة، نظرات، أصوات، لمسات، تتحدى آلة الموت التي تسعى لتجريده من كل ذلك الفرد يتحول إلى رمز إلى شاهد حي على الاستمرار وعلى التمرد الصامت الذي لا يُعلن نفسه لكنه حاضر في كل كلمة تُكتب.
وعلاقة الفرد بالمأساة الجمعية هي علاقة تلازم معقدة فالمأساة لا تبتلع الفرد فقط بل تمنحه وجودًا جديدًا وجودًا متشظيًا لكنه حقيقي.
هذه العلاقة تحكي عن التوتر الدائم بين الشعور بالوحدة والغربة من جهة والانتماء إلى حدث جماعي هائل من جهة أخرى إنها مأساة الفرد الذي يحمل على كتفيه عبء كل من رحلوا الذي يختبر الألم كما لو كان وحده لكنه في الوقت نفسه جزء لا يتجزأ من الألم المشترك.
وفي هذا التوتر بين الذكرى والنسيان بين الفرد والجماعة بين الحضور والغياب تنبثق الكتابة كفعل فلسفي حقيقي كتمرد على موت الذاكرة وعلى قسوة الزمن وعلى العدم الذي يتهدد كل شيء.
الكتابة إذن ليست فقط وصفًا لما جرى بل محاولة لإعادة بناء عالم يرفض أن يُمحى محاولة لاستعادة إنسانيةٍ ضاعت وسط الركام.
هذا هو البكاء الحقيقي ليس بكاء الدمعة التي تذرف وتنتهي بل بكاء الذاكرة التي تظل حية بكاء الزمن الذي لا ينسى وبكاء الإنسان الذي يتشبث بوجوده رغم الألم بجرحٍ لا يُشفى لكنه يحمل معنى الحياة ذاتها.
في القسم الأول من الكتاب نواجه نصوص الشهداء هنا لا تكتفي الكاتبة بوصف مشاهد الموت بل تغوص في تفاصيل صغيرة تزيح كل خطاب إنشائي.
تقول إحدى الأمهات : “سكبت الماء على أشلاء أطفالي لعلهم يرتوون”
أي لغة في العالم تنافس هذا الصمت الذي يشق الألم؟
هنا لا يعلو صوت الخطابة بل صوت من جُرد من كل شيء حتى من حق البكاء
تتوالى نصوص النزوح، الجوع، الطوابير، المرض، قصف المستشفيات، تشظي الجثث وبقايا الروح.
في كل نص تسأل الكاتبة من موقع العجز لكنها لا تكتب كضحية بل كمن يدرك أن في الكلمة إمكانية النجاة.
في نص “روح متشظية” يستيقظ رجل بعد المجزرة ليكتشف أنه فقد عائلته كلها إصاباته الجسدية بسيطة لكنه يقول:
“من يدرك عمق إصاباتي إذن؟”
هذا هو جوهر النص لا يكفي المشهد بل يتسلل إلى ما بعده إلى ما لا يُرى.
يتكرر هذا النفس في كل المحاور: نصوص الأطفال، الأمهات، الصحفيين، العيد، الأذان اللقمة المفقودة.
كل نص يكشف وجهًا جديدًا من وجوه الإبادة الألم هنا ليس زخرفًا جماليًا بل حقيقة تُمنح حقها من الفوضى والشراسة والبكاء.
في الجزء الأخير من الكتاب نقرأ “نزوح” نصًا مسرحيًا من أحد عشر مشهدًا يزيح وهم “المنطقة الآمنة” حتى حين نتحرك نُقصف حتى حين نهرب نُقتل هنا تبتعد الكاتبة عن المجاز الشاعري وتقترب من الحقيقة المجردة التي لا تحتاج تحسينًا.
ثم نصوص العيد – العيد الذي يتحول إلى جنازة، إلى غصة، إلى لحم نيّئ على مائدة لا شيء فيها سوى الذكرى كأن الكاتبة تمسك بالمناسبة الجماعية وتغمسها بالوحل ليس لإهانتها بل لإنقاذها من سطحيتها.
أهمية العمل ليست في موضوعه فحسب فالكثير كتب عن غزة بل في شجاعة من تكتب وهي تعرف أن لا شيء يكفي تقول في مقدمة كتابها إنها تعتذر لأهل غزة لأن الكلمة لا تبلغ عمق المأساة لكن الاعتذار نفسه هو صدق النص الكلمة لا تنقذ لكنها تشهد والكاتبة تدرك أن الشهادة ضرورية وإن لم تكن كافية.
نقرأ هذا الكتاب كي لا ننسى ونضعه في الرف لا كتحفة بل كتذكرة بالعار الإنساني وبأننا حين لا نفعل شيئًا نصبح شركاء في القتل حتى وإن كان ذلك بشهادة الصمت.