
أنا قلق ، بقلم : محمد علوش
أنا قلق.. قلقٌ كمن يكتب على جدارٍ مهدّم، ويعلم أن لا أحد سيقرأ، وقلقٌ كمن يغني في صحراء لا صدى فيها، ولا ظلّ، ولا آذان.
ما الذي يحدث للثقافة الفلسطينية؟
أيُّ ريحٍ عاتيةٍ اقتلعت جذور الحركة الأدبية من تربةٍ كانت مشبعة بالحبر، مزروعة بالمجاز؟
أين ذهب أولئك الذين كانوا يكتبون لا ليتزينوا بالجوائز، بل ليضيئوا دروب الذاكرة ويحرّضوا على الحياة والحرية؟
لماذا بات المشهد الثقافي شاحباً، هامداً، وكأن لا أحد منّا رأى الدم وهو يتحوّل إلى قصيدة، أو الحصار وهو يتكسّر تحت نصل اللغة؟
لقد كانت الثقافة الفلسطينية — ذات زمن — طليعة المقاومة، بوصلة الحالمين، ومساحة التنفّس لشعبٍ يقاتل على كلّ جبهة.
كانت الكلمة بندقية، والقصيدة خندقاً، والرواية متراساً في وجه الغياب، أما اليوم، فالمشهد يغرق في صمتٍ مريب.
المؤسسات الثقافية تتآكل، كأنها بيوتٌ من ورقٍ في مهبِّ ريح التهميش، والنتاج الأدبي — على كثافته أحياناً — يترك وحيداً في العراء، بلا رعاية، بلا احتضان، بلا حاضنة نقدية تُفكّك وتضيء وتفتح أبواب الحوار.
هل صارت الثقافة ترفاً؟
هل غدت الكتابة شأناً فردياً معزولاً، لا يعوَّل عليه إلا لدى هواة التجريب الذاتي؟
هل بات النقد مجرد صدى باهت في زوايا صحف مهجورة، أو مجاملات باردة تتداولها منصات التواصل كتحية عابرة؟
أين الجامعات؟
أين الاتحادات؟
أين الوزارات؟
بل أين المشروع الثقافي الفلسطيني الذي يليق بشعبٍ يكتب تاريخه تحت حراب الاحتلال وبدماء الشهداء؟
أنا قلق.
ليس لأن الشعراء قلّوا، بل لأنهم يُنسَون، وليس لأن الكتّاب توقفوا عن الكتابة، بل لأنهم يُتركون وحدهم في العتمة، وليس لأن النقّاد غائبون فحسب، بل لأنهم حين يحضرون، لا يملكون إلا أدواتٍ قديمة، ومفاهيم مستهلكة لا تنفذ إلى عمق التحولات الجمالية والمعرفية.
أنا قلق، لأن لا أحد يسأل: من يقرأ؟ ولماذا لا نقرأ؟
ولا أحد يجرؤ أن يضع إصبعه على الجرح: بأننا بلا استراتيجية ثقافية، بلا مؤسسات فاعلة، بلا ميزانيات حقيقية مخصصة للفكر، والأدب، والمعرفة، وكأنّ فلسطين — في زحمة السياسة والمقاومة والمحن — لم تعد ترى في الثقافة سوى زينة على هامش الخراب.
لكننا نعرف، نحن الذين ما زلنا نؤمن، أن لا خلاص دون ثقافة، ولا تحرّر دون وعي، ولا مقاومة كاملة دون جبهة معرفية وإبداعية ونقدية تعيد إنتاج الوجدان الجمعي، وتخترق المألوف، وتفضح الزيف، وتقاوم النسيان.
أنا قلق، نعم.. لكن قلقي ليس بكاءً على أطلال، بل نداء.. نداءٌ للذين ما زالوا يكتبون كأنهم يشعلون النور في نفق، نداءٌ للمؤسسات التي نسيت دورها، وللوزارات التي نامت، وللأصوات التي صمتت.
فلننهض، لا من أجل الأدباء وحدهم، بل من أجل فلسطين.. ففلسطين التي لا تكتمل دون قصيدة، ولا تتحرر دون سردية، ولا تنهض دون ثقافة تليق بها.