
توجيه مجموعات للمتوحدين ، عبور إلى عالمٍ آخر ، بقلم : رانية مرجية
حين نتحدّث عن التوحّد، لا ينبغي أن نراه كقوقعة مغلقة أو عالمٍ منزوي بعيد عن عالمنا،
بل هو عالم آخر… موازٍ، مدهش، نقي، وإن بدا لنا غامضًا.
إنّ الأشخاص من طيف التوحّد لا يعيشون في ظلام،
بل في نورٍ لا نعرف كيف نراه.
ولا يعانون من “نقص”، بل من “فائض”
— فائض حساسية، فائض صدق، فائض ضجيج داخلي يعجز العالم الخارجي عن احتوائه.
وهنا، يبرز دور المجموعات التوجيهية والعلاجية،
كجسور إنسانية مدهشة تُقام بين هذا العالم وذاك.
إنها ليست جلسات تمرين فقط، بل مساحات لقاء،
حيث تُعلّمنا الفروق كيف نكون أكثر إنصافًا، أكثر رحمة،
وأقلّ هوسًا بالتطابق.
وبصفتي مشرفة وموجِّهة لهذه المجموعات،
أعترف أنني لا أقدّم فقط، بل أتلقّى.
ففي كلّ جلسة، ومع كلّ طفل،
أشعر أنني أفيض نورًا، وكأنّ أرواحهم النقيّة
تمنحني طاقةً لا توصف.
أنا لا أُدرّبهم فحسب،
بل أتنفّس معهم، أتعافى، أندهش،
وأكتشف كم كنتُ أجهل الحبّ الصامت.
نعم، أستمتع كثيرًا بهذا العمل،
لأنّه يلامس جوهر إنسانيتي، ويوقظ فيّ
ذلك الجزء الدافئ الذي كدتُ أنساه وسط ضجيج الحياة.
فأنا لا أُرافقهم من باب “الواجب”،
بل من باب الامتنان،
لأنهم يمنحونني فرصة رؤية العالم بعين أخرى،
أصدق، أعمق، وأجمل.
في هذه المجموعات، يتعلّم الطفل المتوحّد أن يتعامل مع محيطه تدريجيًا،
ويتعلم المحيط كيف يحتضن اختلاف الطفل لا أن يصنّفه أو يعالجه بالقسوة.
نستخدم الفن، اللعب، الموسيقى، التكرار، والرغبة الصادقة في التواصل…
وليس الصراخ أو التصحيح القهري.
لكنّ التحدّي ليس في تقنيات التوجيه فقط،
بل في النية الأخلاقية التي نقود بها هذه المساحات.
هل نُريد دمج المتوحّد في عالمنا لنُعيد تشكيله وفق مقاساتنا؟
أم أننا نتعلّم أن نتّسع لعالمه، ونحترم حدوده، ونرافقه كما هو؟
في كل لقاء، نتعلّم درسًا جديدًا:
أن الصمت ليس جهلًا،
وأن الانعزال ليس غطرسة،
وأن البكاء دون سبب واضح… ربما هو لغة أخرى نحن من نجهلها.
ليس الهدف من التوجيه أن “نصحّحهم”،
بل أن نمنحهم أدوات يستطيعون بها أن يعبروا إلينا… إن أرادوا، وبالطريقة التي يختارونها.
أما نحن، فعلينا أن نتعلّم كيف نُصغي إلى من لا يعبّر بالكلمات،
كيف نُحبّ من لا يبتسم بالضرورة،
وكيف نحترم من يعيش “بين سماء وسماء”.