
العقوبات الأمريكية على القيادة الفلسطينية: من معاقبة الاحتلال إلى محاسبة الضحية ، بقلم : ثروت زيد الكيلاني
في مشهد سياسي يتسم بالتناقضات الصارخة، أعلنت الولايات المتحدة فرض عقوبات على مسؤولين في السلطة الفلسطينية وأعضاء في منظمة التحرير. القرار – الذي جاء بحجة تقويض فرص السلام ودعم “التحريض” – يعكس تحولاً خطيراً في اتجاه البوصلة الأمريكية: من رعاية مفترضة للسلام، إلى الانخراط العلني في معاقبة الطرف الأضعف، وتبرئة الطرف الأقوى من كل خرق للقانون والشرعية. في هذا السياق، لا يمكن فهم العقوبات بمعزل عن تحولات أعمق في الرؤية الأمريكية – الإسرائيلية لمستقبل القضية الفلسطينية، ولا عن محاولة إعادة تشكيل هوية الفاعل السياسي الفلسطيني بما يخدم تلك الرؤية.
أولاً: عقوبات تحت مظلة “السلام”
تقدّم واشنطن هذه العقوبات كخطوة ضرورية للحفاظ على فرص السلام، لكنها في حقيقتها تحمل طابعاً عقابياً واضحاً تجاه السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير، بسبب مواقفهما السياسية والقانونية. فبدل أن تُكافأ القيادة الفلسطينية على التمسك بالعمل السياسي والدبلوماسي، تجد نفسها معاقبة لأنها لم تُذعن بالكامل لخطاب التسوية الأمريكي – الإسرائيلي. وهكذا تُستعمل ورقة العقوبات ليس لتحقيق سلام عادل، بل لتطويع الموقف الفلسطيني.
ثانياً: تدويل النزاع يُغضب واشنطن
يشكّل لجوء القيادة الفلسطينية إلى المحاكم الدولية أحد أبرز ملامح المرحلة السياسية الحالية. غير أن واشنطن ترى في هذا المسار القانوني تحديًا مباشراً لنفوذها ولمفهومها الأحادي للسلام. فحين يحمل الفلسطيني قضيته إلى قاعات العدل الدولية، تسارع الإدارة الأمريكية إلى وصف ذلك بـ”التحريض” أو “الإرهاب الدبلوماسي”، متناسية أن حق اللجوء إلى القضاء مكفول لكل ضحية، وأن من يسعى لتحقيق العدالة لا يجب أن يُعاقَب.
ثالثاً: مؤتمر باريس… وضوء يتقد في العتمة
شكّل مؤتمر باريس الأخير نقطة تحول في المشهد الدبلوماسي، إذ شاركت فيه دول أوروبية وعربية وأممية عبّرت عن دعمها المبدئي لحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم، وبدأت تتحدث بلغة الاعتراف بدولة فلسطين على حدود الرابع من حزيران. هذا الزخم – رغم رمزيته – أقلق الولايات المتحدة وإسرائيل، اللتين تنظران بعين الريبة إلى أي محاولة دولية لنقل مركز الثقل من المفاوضات الثنائية إلى الفضاء المتعدد الأطراف. وفي هذا السياق، تُقرأ العقوبات الأمريكية كردّ على “تمرد دبلوماسي” يتنامى، ومحاولة لكبح جماح اعتراف دولي متصاعد بفلسطين، لا سيما مع اقتراب استحقاقات الأمم المتحدة في سبتمبر القادم
رابعاً: رد على الاعترافات الأوروبية
تتزامن هذه العقوبات مع موجة اعتراف دول أوروبية بدولة فلسطين، ما يُقلق واشنطن التي اعتادت على إدارة الصراع وفق إيقاعها الخاص. ومع اقتراب معركة سياسية ودبلوماسية في الجمعية العامة للأمم المتحدة، تسعى الولايات المتحدة إلى كبح الزخم الفلسطيني المتنامي، والتلويح بأن من يخرج عن المظلة الأمريكية، سيُواجَه بالنبذ والعقاب، لا بالدعم والتأييد.
خامساً: من يحاصر من؟
المفارقة الكبرى أن العقوبات تُبرَّر بمزاعم “التحريض”، بينما الاحتلال، بسياساته اليومية في الضفة الغربية وغزة، يمارس تحريضاً مادياً ممنهجًا ضد الإنسان الفلسطيني. يُحاسب الفلسطيني لأنه يطالب بمحاكمة الاحتلال، بينما يُكافأ الاحتلال على إفلاته من المحاسبة. هنا تنقلب المعايير: تصبح الضحية مُدانة، والمعتدي مُبرّأً.
سادساً: المستفيد الحقيقي
لا تخفى ملامح الرضى الإسرائيلي عن هذا القرار، الذي يوفّر لإسرائيل غطاءً أمريكيًا إضافياً لتقويض شرعية منظمة التحرير والضغط على السلطة الفلسطينية. والأنكى أن القرار قد يُستعمل لاحقًا لتحديد “من هو الفاعل الفلسطيني المقبول”، وفقاً لمقاييس أمريكية – إسرائيلية، لا وفقاً لإرادة الشعب الفلسطيني. وهذا يُهدد المشروع الوطني بأسره، ويُحوّل القيادة الفلسطينية إلى رهينة للضغوط الخارجية بدل أن تكون ممثلاً حراً لشعبها.
سابعاً: الحاجة إلى استراتيجية فلسطينية موحّدة
في مواجهة هذه السياسات العقابية، المطلوب ليس ردوداً شعبوية أو ارتجالية، بل موقف فلسطيني وطني عقلاني وجريء، يُعيد الاعتبار لوحدة القرار والتمثيل، ويضع القانون الدولي في خدمة نضالنا، لا في موقع الدفاع. وحدها منظمة تحرير قوية وموحدة وذات شرعية شعبية يمكن أن تواجه محاولات العزل والتهميش، وتبقي على القضية حيّة في ضمير العالم.
إن العقوبات الأمريكية الأخيرة ليست مجرد إجراء دبلوماسي عابر، بل هي رسالة سياسية صارخة: إما أن يقبل الفلسطيني بدور المتلقي الصامت في مسرحية سلام مفروضة، أو يُعاقَب لأنه تجرّأ على انتزاع الكلمة والكرامة. وبين التبعية والعقاب، لا بد من طريق ثالث: مشروع وطني تحرري مستقل، يعيد بناء العلاقة مع العالم على أساس الحق والسيادة، لا على منطق الإذعان أو استرضاء المانحين.
فلسطين ليست بنداً في موازنة سياسية، ولا سلعة تفاوض، بل قضية حرية وكرامة إنسانية. ومن يحاول خنق صوتها، فلن يطفئ جذوة الحق فيها، بل سيوقظها في ضمائر الشعوب الحرة.