9:50 مساءً / 1 أغسطس، 2025
آخر الاخبار

المستشفى الثقافي ، حين يصبح الفن دواء والكتاب وصفة شفاء ، بقلم : د. سارة محمد الشماس

المستشفى الثقافي ، حين يصبح الفن دواء والكتاب وصفة شفاء ، بقلم : د. سارة محمد الشماس

في زمنٍ تتسارع فيه عجلة الحياة وتثقل الضغوط كاهل الأفراد، تظهر الحاجة الملحة إلى ملاذٍ يعيد للإنسان توازنه النفسي والذهني، مكان لا يداوي الجسد فقط، بل يرمم الشروخ الخفية في أعماق الروح. من هذا المفهوم الرائد، ولدت فكرة “المستشفى الثقافي” مشروع استثنائي يمزج بين عوالم الصحة والفكر، بين الاستشفاء الجسدي والانبعاث الثقافي، ليؤكد أن الثقافة ليست ترفاً، بل حاجة وجودية.

مفهوم فريد.. ورسالة أعمق

“المستشفى الثقافي” ليس اسماً مجازياً ولا مشروعاً عابراً، بل رؤية متكاملة تهدف إلى توظيف الثقافة كعنصر أساسي في تعزيز الصحة النفسية والاجتماعية. الفكرة تقوم على تقديم الأنشطة الثقافية كجزء من برامج الاستشفاء أو الدعم النفسي، عبر برامج القراءة، والكتابة التعبيرية، والحوارات الفكرية، والعروض الفنية، وورش الحرف اليدوية، في بيئة مريحة وآمنة تحفز التفاعل والتعبير.


ويعد هذا المستشفى منبراً يجمع المرضى، الزوار، المثقفين، والفنانين، تحت سقف واحد، في مسعى لصياغة تجربة شفاء مغايرة تنبع من جوهر الإنسان نفسه، لا فقط من العقاقير أو الأدوات الطبية.

مكان تتقاطع فيه القلوب والعقول


من اللحظة الأولى التي تطأ فيها قدماك أروقة المستشفى الثقافي، تشعر بأنك دخلت عالماً آخر. اللوحات الفنية تملأ الجدران، رفوف الكتب تحتل زوايا الانتظار، والموسيقى الهادئة تنساب كنسيم خفيف يبعث على الطمأنينة. هنا، لا مكان للعزلة أو الخوف؛ بل حضور دائم للأمل والانفتاح والحوار.


المرضى لا يُنظر إليهم كمجرد حالات سريرية، بل كأفراد يحملون قصصاً وتطلعات وتجارب، يمنحون الفرصة للتعبير عنها عبر جلسات السرد القصصي، أو يكتشفون ذواتهم من جديد عبر الكتابة أو المسرح أو الحرف اليدوية. وفي المقابل، يشارك الفنانون والمثقفون تجاربهم مع المرضى، ويقدمون أعمالاً تلامس أحاسيسهم وتفتح نوافذ جديدة للتفكير.

نتائج ملموسة واعتراف مجتمعي

لم تكن التجربة محض نظرية مثالية، بل أثبتت فعاليتها على أرض الواقع. المرضى الذين شاركوا في البرامج الثقافية أظهروا تحسناً ملحوظاً في حالتهم النفسية، وانخفاضاً في معدلات التوتر والقلق، إلى جانب تحسن ملحوظ في تفاعلهم الاجتماعي واستجابتهم للعلاج الطبي. كما ساهمت الفعاليات الثقافية في تقليص مشاعر العزلة وتحفيز الحافز الذاتي للشفاء.


وقد أثبتت التجربة أن الإنسان لا يحتاج فقط إلى الدواء، بل إلى ما يعينه على إعادة اكتشاف ذاته. وبينما قد تلتئم الجراح بالمسكنات، فإن الجروح العميقة في النفس لا يضمدها إلا الحرف والفن والمعنى.


وإضافة إلى ذلك، جذب المستشفى الثقافي انتباه الأوساط الأكاديمية والمؤسسات الصحية الدولية، كونه يقدم نموذجاً بديلاً عن النمط التقليدي للرعاية الصحية، ويؤسس لعلاقة أكثر إنسانية وشمولاً بين الفرد والمحيط العلاجي.

الثقافة كجسر نحو مجتمع أكثر صحة

في جوهر هذه المبادرة يكمن إيمان عميق بأن الثقافة ليست حكراً على النخبة، بل حق لكل إنسان. المستشفى الثقافي يعيد الاعتبار لهذا الدور، ويوسع من مفهوم “الاستشفاء” ليشمل أبعاداً ذهنية وروحية لا تقل أهمية عن الجسد. إنه فضاء يؤمن أن القراءة يمكن أن تكون علاجاً، وأن الفن يمكن أن يكون دواء، وأن الحوار قد يكون أقوى من المسكنات.
إننا بحاجة ماسة إلى تعميم هذا النموذج، ليس فقط في المؤسسات الصحية، بل في المدارس، والمراكز المجتمعية، وفي كل ركن من أركان الحياة اليومية. لأن الإنسان لا يشفى بالكامل إلا عندما يحتفى بإنسانيته، ويمنح فرصة للنمو، لا فقط للبقاء.

مشروع إنساني قبل أن يكون ثقافياً

المستشفى الثقافي هو أكثر من منشأة؛ إنه فلسفة، ورسالة، وتجسيد لفكرة أن الثقافة قادرة على أن تكون طوق نجاة وسط بحر من الضغوط والعزلات. هو دعوة لإعادة الاعتبار للإنسان، ولجوهره العميق، في زمن باتت فيه القيم تختزل في الأرقام والتقارير.


فلنفتح نوافذ المستشفيات للكتب، ولندع الفنون تتسلل إلى غرف المرضى، لعلنا نكتشف من جديد أن الشفاء يبدأ من كلمة، ومن شعور، ومن لحظة إنصات حقيقية.

  • – د. سارة محمد الشماس – باحثة وكاتبة في التراث والعلوم التربوية .

شاهد أيضاً

مستوطنون يعتدون على دير جرير شرق رام الله والأهالي يتصدون لهم

مستوطنون يعتدون على دير جرير شرق رام الله والأهالي يتصدون لهم

شفا – تصدى أهالي قرية دير جرير شرق رام الله، مساء اليوم الجمعة، لمحاولة اقتحام …