8:32 مساءً / 28 يوليو، 2025
آخر الاخبار

تاريخ للبيع …مع شهادة أصالة موقعة من ابليس ، بقلم : د. وليد العريض

تاريخ للبيع …مع شهادة أصالة موقعة من ابليس ، بقلم : د. وليد العريض

يا صديقي
لا أدري لِمن أكتب هذه الرسالة
هل أكتبها لزمنٍ مضى؟ أم لحاضرٍ يتهرّب؟
أم لمؤرخٍ سيأتي بعد ألف سنة ويبحث عن الحقيقة في صندوق من الكذب الفخم؟
كل ما أعرفه أنني اليوم، أنا – ابن التاريخ، حارس الوثيقة، صانع السردية أجلس أمام مكتبي يحيطني الورق من كل جانب
وأشعر أن رأسي سيُفجَّر من سؤال بسيط فادح:
كيف أُصدّق روايات التاريخ القديم
إذا كان ما أراه اليوم – بعينيّ، وألمسُه بيديّ – مجرّد مسرحية تزوير هزلية؟!”
كل شيء حولي يُزوَّر:
السيارة التي أمام البيت مزوّرة
الإمام في المسجد مزوّر
الخبير الاقتصادي مزوّر
والمثقف يُداري قناعه كل صباح كي لا تفضحه ملامح الصمت.
والمؤلم – يا صاحبي – أن التزوير لم يأتِ فقط من جهة السُلطة
بل من العلماء الذين يفتون حسب الطلب
ومن الفقراء الذين باعوا الحقيقة بخبزة
ومن العوام الذين باتوا يخافون من إعجابٍ على منشور، كأنّ الكلمة قنبلة،
ومن النخب التي مسحت ذاكرتها وطبعت على جبينها شعار المرحلة:
“لنكن واقعيين
والكذب من الواقعية!”
فإذا كانت هذه حال الأمة اليوم
كيف أُقنع نفسي أن روايات الأمس كانت نقية؟
كيف أصدّق أن من كتب الفتوى في القرن الثالث لم يكن محسوبًا على الخليفة؟
وأن من دون انتصارات الدولة لم يكن موظفًا عند السلطان؟
وأن من كتب “قال الراوي” لم يكن يقول ما طُلب منه قوله؟
إذا كان الحاضر مفضوحًا حتى العظم
والروايات تصنعها ميزانيات
والتحقيقات الصحفية تُراجعها وزارات
والشهادات تُباع على قارعة السوق
فكيف أُسلم رقبتي للأمس وأقول له: “حدثني بما شئت وسأصدقك”؟!
أين رأس الحكمة؟
لقد كانت – في الكتب – مخافة الله.
أما اليوم فهي مخافة الشيطان
وخوفٌ من الرقيب
ورعبٌ من اللايك.
يا صديقي
في غزة الأطفال جوعى
وفي نشرة الأخبار: “الحالة الغذائية مستقرة.”
في المجازر الكاميرات تفضح
وفي التقرير الرسمي:
لم تُثبت النية في القتل الجماعي.
حتى الحقيقة لم تعد مادة قابلة للتداول
بل سلعة موسمية، تُمنح بترخيص مؤقت

.أكتب المقال تلو الآخر،
القصيدة تلو الصرخة،
ويقول لي الناس في العزاء:
نقرأ لك يا دكتور ونصمت كي لا نُدان.”
هل صارت الكلمة تهمة؟
هل أصبح التفاعل جريمة؟
هل الكتابة عبثٌ في عصر صار السكوت فيه دينًا رسميًا؟
أفكر أحيانًا أن أستقيل من التاريخ،
أن أعتزل الأكاديميا
أن أكتب كتابًا بعنوان:
“دليل التزوير: كيف تبني روايتك وتدفن الحقيقة في هامش الصفحة؟”
أفكر أن أدرّس مادة جديدة اسمها:
“التاريخ الساخر: من زمن الراشدين إلى زمن الراشحين بالتزوير.”
لكني أعود لأكتب رغم كل شيء.
لأن الصمت خيانة
ولأن السخرية – في هذا الخراب – آخر أنواع الصدق.
وإن لم يصدقني أحد
فليقرأني من يأتي بعدي
وليقل: “كان في ذلك الزمان رجلٌ اسمه وليد… كتب، رغم أن العالم سَحج للكذب
وظلّ يؤمن أن الحقيقة تُولد أحيانًا من رحم الضحك الأسود.”
فليحفظ هذا التاريخ
إن بقي تاريخ.
المكلوم بالتاريخ

  • – د. وليد العريض – ( مؤرخ، أديب، شاعر، وكاتب صحفي) .

شاهد أيضاً

الاحتلال يُصيب شابا بالرصاص الحي عند المدخل الشمالي لمدينة الخليل

الاحتلال يُصيب شابا بالرصاص الحي عند المدخل الشمالي لمدينة الخليل

شفا – أصيب شاب برصاص قوات الاحتلال الإسرائيلي، اليوم الإثنين، عند المدخل الشمالي لمدينة الخليل …