
الضفة تحت مقصلة السيادة ، حين يتواطأ القانون مع الغزاة ، بقلم: ثروت زيد الكيلاني
لم تكن الضفة الغربية في يوم من الأيام مجرد رقعة جغرافية ملحقة بخارطة صراع، بل كانت دوماً قلب الرواية، ومهد المأساة، ومرآة التوازن المختل بين القانون والقوة. واليوم، حين يصوّت الكنيست الإسرائيلي بأغلبية 71 عضواً لصالح قرارٍ يدعو إلى فرض “السيادة” الإسرائيلية على الضفة الغربية، فإننا لا نكون أمام مجرّد حدث سياسي عابر، بل أمام لحظة مفصلية يتقاطع فيها السرد الاستعماري القديم مع أدوات تشريعية حديثة، ويُعاد من خلالها إنتاج الهيمنة بصيغة قانونية ناعمة الشكل، شرسة الجوهر.
لقد جاء هذا القرار في زمن يتآكل فيه الإدراك العالمي للعدالة، وتغيب فيه المعايير الأخلاقية لصالح موازين القوى. وهو ليس مشروع قانون عابر، بل بيان نوايا استراتيجي، يُعاد فيه ترسيم حدود الدولة من جديد، لا عبر الحرب ولا عبر التفاوض، بل عبر إعادة تعريف السيادة نفسها، وتحويلها من مفهوم يرتبط بالإرادة الشعبية والشرعية القانونية إلى أداة تُستخدم لشرعنة السيطرة والإلغاء. وهنا تكمن الخطورة: في أن يصبح القانون غطاءً لغزو آخر، وأن تتحول الدولة من مؤسسة ضامنة للحق إلى آلية لإنتاج الإقصاء.
لقد عبّر الإعلام العبري، في قراءته للقرار، عن تباين داخلي في النبرة، لكنه تقاطع في المضمون: فالبعض وصف الخطوة بأنها “رمزية”، والآخر اعتبرها “تحولاً تاريخياً في تموضع الدولة”، لكنها في الجوهر – كما أجمع الخطاب الصهيوني – خطوة ضرورية “لتثبيت الحق اليهودي” على الأرض. هذه اللغة، التي تنضح باليقين العرقي، لا تُقصي الفلسطيني فحسب، بل تسعى إلى نزع صفة الإنسانية عن قضيته، وإعادة توصيفها باعتبارها معرقلاً أمام “الطبيعة الجديدة للسيادة”.
في هذا المنعطف المحتدم، لا بد من استعادة البوصلة نحو الحقيقة التي يحاول الاحتلال جاهداً طمسها خلف ضباب القوة والتشريعات الزائفة؛ ففلسطين ليست قضية قانونية تُختزل في بنود اتفاق أو سطور لائحة دولية. إنها قضية وطنية، لأن الأرض لا تُفصَل عن الذاكرة، والتاريخ لا يُختصر بقرار. وهي وجودية، لأن جوهر الإنسان الفلسطيني يتماهى مع ترابه، فلا هوية له إلا بانتمائه، ولا كينونة له خارج حقه في أن يكون. وهي قانونية، لأن كل مواثيق العالم الحر تُجمع على عدالة هذا الشعب وصموده في وجه الظلم التاريخي. وهي أخلاقية، لأنها تفضح انهيار منظومة القيم العالمية كلما مرّت جرائم الاحتلال بلا مساءلة. وهي إنسانية، لأن فلسطين أصبحت مرآة للعالم، تكشف قسوته أو ضميره، وتضع كل شعاراته على المحك. فلسطين، إذاً، أكبر من أن تُحبس في أروقة المحاكم أو تُقيد بحبر اتفاقيات ناقصة؛ ومن يحاول تقزيمها في تلك الزوايا، لا يجهل معناها فحسب، بل يشارك في محو روحها.
إن ما يُطبخ في الكنيست ليس مجرد رأي داخل برلمان، بل هو مشهد مسرحي دقيق: الاحتلال يتسلل متخفياً في عباءة القانون، ويتحدث بلسان التشريع، ويحاول أن يخلط بين “القانوني” و”المشروع”. وهذا التمويه المقصود يهدف إلى ترسيخ منطق مفاده أن السيادة تُصنَع بالتشريع، لا بالحق؛ وأن الأرض تُضمّ بالتصويت، لا بالانتماء. لكنّ كل هذا لا يغير من الحقيقة شيئاً: أن هذه الأرض ليست فراغاً قانونياً، ولا مساحة بانتظار مَن يكتب اسمها؛ بل هي وطن مكتمل، يسكنه أهله، ويكتبونه بدمهم، ويصوغونه في صبرهم وصمودهم.
القرار الإسرائيلي، رغم كونه غير ملزم، لا يقلّ خطورة عن القوانين القاطعة، لأنه يُهيئ الوعي الجمعي لتقبّل الضم كأمر طبيعي، ويدرب العقل السياسي الإسرائيلي على النظر إلى الضفة الغربية باعتبارها “جزءاً داخلياً” لا خلاف حوله. وهو ما يشكل تهديداً مضاعفاً: للقانون الدولي الذي يُفرغ من مضمونه، وللرؤية السياسية التي يُنتزع منها الأمل، وللواقع الفلسطيني الذي يُختصر في كلمة “عقبة” على لسان المحتل.
أمام هذه الوقائع، لم يعد كافياً أن نكتفي بالتنديد أو الاستنكار. ما نحتاجه اليوم هو خطاب فكري تحرري، يعيد امتلاك المفاهيم، ويفضح التواطؤ المعرفي مع الاحتلال. خطاب ينهض من جراح الأرض، لا من نصوص الآخرين، ويعيد بناء الوعي الفلسطيني والعربي والدولي على أساس أن السيادة لا تُمنح، بل تُنتزع؛ وأن القانون لا يصنع الحق، بل يعبّر عنه؛ وأن من يظن أن السيادة تُشرعن في قاعة تشريع، إنما ينسى أن الشعوب تُنبت شرعيتها من بين الأنقاض والمقاومة.
في زمنٍ تُرتكب فيه أبشع الجرائم تحت عباءة “الشرعية الدولية”، وتُسفك فيه الجغرافيا على موائد التشريع البارد، وتُختزل فيه العدالة إلى سطور مرنة تُشكلها مصالح الأقوياء، تصبح المقاومة ـ بكامل تجلياتها ـ فعلاً لا يُقرأ فقط في ضوء القانون، بل يُستعاد كمعنى فلسفي مضاد لتفاهة العدالة الانتقائية، وكوعي وجودي يقاوم الانمحاء الرمزي.
ليست فلسطين نقيضاً للقانون، ولكنها تكشف عوراته؛ ليست خارجة عن منطق الشرعية، بل تفضح انحراف هذا المنطق حين يُنكر الحق تحت وطأة الحسابات. فهي، في عمقها، ليست فقط ملفاً قانونياً يُحمل إلى المحاكم، بل هي قضية إنسانٍ ما زال يحتفظ بصوته رغم الجراح، وذاكرةٍ لم تتكلس رغم محاولات المحو، وحقٍ لا يُمنح بيد الغزاة، بل يُنتزع بإيمان من يدرك أن للأرض روحاً، وللعدل زمناً، وإن تأخر. وللشعب ذاكرة، وللحق لغة لا يفهمها الكنيست.