
حين يبكي النصُّ من شدة المعنى ، بقلم : نور الحريري
“ليس النصّ ما يُكتَب، بل ما يُنزَع من الجسد كأثرِ جرحٍ لا يلتئم.”
ثمة نصوصٌ لا تُقرأ، بل تُرتجف.
نصوصٌ لا تمرّ، بل تُسكن.
نصوصٌ ليست مكتوبة بالحبر، بل بالنجاة المؤجلة، بالصرخات التي لم يُسمح لها أن تكون صوتًا، بالدموع التي لم تجد وجناتٍ كافيةً لتسقط عليها، فنزلت على الورق.
حين يُولد النصّ من رحم الخسارة، لا يكون مجرد كتابة، بل طقس نجاة.
طقسٌ يشبه الصلاة في ليلٍ لا يعِدُ بفجر، أو محاولة لفهم الخراب بلغةٍ أكثر صدقًا من الصمت.
والنصُّ حين يبلغ أقصى درجات الصدق، لا يكون عادلاً مع القارئ، بل موجعًا، جارحًا، مفترسًا في صدقه، كأنه يعرف أين تُخفي ضعفك ويضغط عليه بجملة.
ليست كلّ الكتابات قابلة للبكاء، هناك نصوص جميلة، جذابة، مثقفة، لكنّها لا تنزف. لا ترتجف. لا تهمس من وراء الكلمات بذاك الشيء الخفيّ الذي لا يُقال. أما النصّ الذي يبكي من شدّة المعنى، فهو الذي يُحسّ ولا يُفهم، يُلمَس ولا يُحلَّل. النصّ الذي حين تصل إليه، لا تُكمل القراءة لأنك قرأته، بل لأنك وجدتَ فيه نفسك كما لم تتعرّف إليها من قبل.
إنه النصّ الذي لا يأتي من ذهن الكاتب بل من نزيفه.
ذلك الذي لا يصنعه القصد، بل يصنعه الانهيار.
الكاتب لا يجلس ليكتب هذا النوع من النصوص، بل يقع فيه. كمن يقع في بئرٍ، لا يعرف عمقها، لكنه يكتب وهو يهوي. كل جملة فيها ظلمة، وكل سطرٍ حبل نجاةٍ من الجنون.
النصّ الذي يبكي من شدّة المعنى، لا يحكي قصة، بل يصير القصة. لا يشرح الألم، بل يصبح الألم نفسه. يتخطى اللغة ليلامس ما قبل اللغة، ما قبل القدرة على التعبير، ما قبل النطق. كأنّ الكاتب لم يعد يكتب لأنه يملك ما يقول، بل لأنه لم يعد يستطيع أن يسكت.
وهذه الكتابات لا تتكرر كثيرًا.
هي نادرة كالحب الصادق،
كأنّها كُتبت في لحظة موتٍ مؤجّل.
لحظةٍ تداخل فيها الحزن بالحكمة، والدمع بالبصيرة، واليأس بالأمل المغسول من التوقعات.
النصّ هنا لا يقترح عليك معنى، بل يغرز فيك وعيًا مؤلمًا.
لا يقول لك “انظر”، بل يجبرك على أن ترى.
حين يبكي النصّ من شدّة المعنى، لا يعود النص نصًّا، بل تجربة كاملة.
شيءٌ يشبه الحلم الذي لا تتذكّر ملامحه، لكنك لا تزال تشعر بثقله في صدرك.
كأنك لا تقرأ، بل تستعيد فاجعةً كنت قد نسيتها عمدًا.
كأن اللغة نفسها ارتكبت جريمة عاطفية، وتركت فيك أثرها.
هذا النوع من النصوص لا يكتبه شاعر، ولا ناثر، بل إنسانٌ مرَّ من جحيمه وعاد حيًّا،
لكنه لم يعد كما كان.
لذلك كتب.
كتب لأنه لم يجد طريقةً أصدق ليقول: “أنا هنا، وما زلت أتنفّس، رغم كلّ ما انكسر فيّ.