
بين الحلم والهتاف: قراءة في “هتافات حنجرة حالمة” للشاعر محمد علوش ، بقلم: جابر حسين الموسوي
في ديوان “هتافات حنجرة حالمة”، يعلن الشاعر الفلسطيني محمد علوش عن شعريته بوصفها فعل مقاومة، وطقس نجاة، ومساحة مفتوحة للبوح الفردي والجمعي، حيث يشتبك الحلم مع التاريخ، ويصير الهتاف هويةً لغوية تتحدى القبح، وتستعيد الجمال من قلب الخراب.
هذه المجموعة ليست فقط تعبيراً عن همّ وطني فلسطيني ملتهب، بل هي سردية شعريّة ذات طبقات متعدّدة، تتداخل فيها الأسطورة مع الذاكرة، والتاريخ مع الحب، والوجع الشخصي مع الشهادة الجماعية، ومن خلال هذا التداخل، يبني الشاعر نصاً يحمل ملامح التجديد ضمن إطار القصيدة العربية المعاصرة، محافظاً في الوقت ذاته على جذورها الأولى في وجدان الأرض والصراع.
جمالية العنوان وعتبات المعنى – العنوان “هتافات من حنجرة حالمة” يشي منذ البدء بثنائية جوهرية في الديوان: الصرخة والحلم، أو قل: الواقعي والرمزي، الجماعي والفردي، فالـ”هتاف” يُحيل إلى صوت علنيّ، مقاوم، بينما “الحنجرة الحالمة” تضيف إلى ذلك الصوت بعداً داخلياً، رومانسياً، وجودياً، في هذا الالتقاء، يحدد الشاعر تموضعه بين النشيد الجماعي الحاد، والنجوى الشعرية العميقة، حيث يتقاطع الشعر مع السياسة، والبوح مع الموقف.
الشعر بوصفه أرشيفاً للذاكرة ومواجهة للمحو – في هذه المجموعة، تتحول القصيدة إلى نوعٍ من الوثيقة الشعرية، التي توثق لحظات الفقد، الشهادة، النفي، الحب، والخذلان، حيث يقول:
“أنا الشاهد والشهيد / أنا الوحيد
أتيت بصحبة الشهداء مخضباً بالدم والغضب”
هنا، يتماهى الشاعر مع الدور الجمعي، لكنه لا يفقد خصوصيته الشعرية، إنه يؤسس لصوت فلسطيني يحمل الجرح، لا كندبة، بل كراية، ومن اللافت أن النص لا يقع في فخ الشعارات، بل يحتفي بالرمزية والتخييل.
حضور الوطن في جسد القصيدة – تبدو فلسطين في هذا الديوان امرأةً، وحلماً، وأسطورة، ففي قصائد مثل “في القدس”، و”قربان المرحلة”، و”مهجة شعبي المقفاة بالعصيان”، يرسم الشاعر لوحات شعرية تتجاوز المأساة نحو سؤال الحرية:
“في القدس / تتعملق قامات الزيتون / وإصرار التربة والأحجار
أن تسطع في ذاكرة الجذر”
هذه اللغة المحمّلة بالإيحاء، تفتح النصوص على رمزية كثيفة، تجعل من “الزيتون”، و”الماء”، و”الشهداء”، و”الحنجرة”، علامات متكررة تشير إلى المعجم الفلسطيني المقدّس.
بين الحب والموت: انفتاح الذات على الآخر – رغم انغماس الديوان في الشأن الوطني، إلا أن الصوت الإنساني والعاطفي لا يغيب، بل يتجلّى بوضوح في نصوص مثل “أطلقي حريتي في ملكوت اسمك”، و”عاشقة البنفسج”، حيث يعيد الشاعر للقصيدة بعداً وجدانياً شفيفاً، محملاً بلغة رقيقة وأحياناً ملتهبة:
“أعطني جناحيّ الحالمين / لأطير بعيدًا في ملكوت التنبؤ
أمتطي صهوة الزلزلة / بعيدًا عن سرب العبيد”
هذا الانفتاح على الآخر الأنثوي، لا يُختزل في الرغبة، بل يتعداها إلى الحلم المشتهى بالتحرر، حيث تكون المرأة رمزاً للتحوّل والخلاص والولادة الجديدة.
اللغة الشعرية: بين الموسيقى والرمز – يتوسل محمد علوش في هذه المجموعة لغة شعرية مشبعة بالصور والمجازات والتناصّات، فتبدو قصائده وكأنها تنبض بإيقاع داخلي لا يعتمد فقط على الوزن أو القافية، بل على التوترات الدلالية، وعلى تكرار الصور والعناصر المحورية مثل: “الشهيد”، “الزيتون”، “الحنجرة”، “الغيم”، “الضوء”، “الخيمة”، “الأنبياء”، “المدينة”، إلخ، ويحضر في بعض القصائد أثر هايدغر في توظيف اللغة كـ”مثوى الكينونة”، ما يضفي على النص أبعاداً فلسفية توازي الروح الشعرية، خاصة في التأملات حول الموت، الزمن، والمآل.
هتاف لا يصمت – في “هتافات حنجرة حالمة”، لا يكتفي الشاعر بأن يقول الشعر، بل يعيش الشعر كفعل يوميّ، كأداة مقاومة، وكفنّ للنجاة من قسوة اللحظة، وهذه المجموعة تمثل إضافة مهمة في مسار الشعر الفلسطيني المعاصر، إذ تجمع بين التجربة الفردية الحميمة، والوجدان الجمعي الكفاحي، لتمنحنا نصاً متجدداً، يعانق الحلم، ويهتف للجمال، ويواجه الطغيان بالكلمة.
إنها قصائد تدافع عن الإنسان، وتدافع عن اللغة، وتدافع عن الأمل.